صباح الخير
وليد طوغان
أزمة الأزهر بعد بيان «حرق الكساسبة»
أحدث بيان الأزهر ردا على حرق داعش الطيار الأردنى معاذ الكساسبة أزمة فى أوساط المسلمين حول العالم. سيبك من ردود الفعل المحلية.. خليك فى ردود الأفعال حول العالم. خليك فى صورة الإسلام.. وصورة مؤسسة الأزهر التى تقول هنا: نحن الوسطية.. وتقول هناك: لا وسطية إلا نحن.. رد الأزهر ببيان على حرق الطيار الكساسبة بطريقة لا إنسانية، بالتحريض على معاقبة داعش بطريقة لا إنسانية أيضا.
قال: تقطع أرجلهم وأيديهم من خلاف.



رأى كثيرون أنها كارثة. أو تستطيع أن تقول: إن البيان كان «قلم» على وجه العالم، الذى التفت عن داعش التى يقول عليها الأزهر: إنها «مارقة من الدين».. إلى بيان الأزهر الذى يقول: إنه هو الدين، أو هو الوسطية.
فى الجارديان البريطانية تساءل محرر تقرير الشرق الأوسط الأسبوع الماضي: ما الفارق بين عقوبة الحرق.. وبين عقوبة تقطيع الأرجل والأيدى من خلاف؟ قال أيضا: إن المجتمع الإنجليزى لا يفهم.. لماذا يقول علماء الأزهر: إن داعش ليست إسلامية لأنها حرقت الطيار بصورة لا آدمية، بينما يرد علماء الأزهر فى بيان بضرورة بمعاقبتهم بطريقة لا آدمية فى نفس الوقت؟
لما زادت ردود الأفعال الدولية.. اهتزت الصورة. صورة الأزهر من تداعيات بيان الأزهر. اهتز الأزهر نفسه فى عيون أوساط غربية وإسلامية كثيرة. كان مفترضًا أن مشيخة الجامع الأزهر فى مصر، هى المرجعية الأخيرة للإسلام السمح التى لم تسقط فى عيون العالم. مفترض أيضا أنها كانت المؤسسة الوحيدة المعتدلة للدين.
لذلك أثار البيان بلبلة.
على تليفزيون البى بى سى.. سألت المذيعة أحد الأزهريين عبر الأقمار الصناعية من هولندا أو إنجلترا لا أعرف: لماذا تقولون إن حرق داعش للطيار الكساسبة خارج على الدين، بينما فى المراجع التراثية الإسلامية هناك من مارس عقوبة الحرق من المسلمين الأوائل؟
رد الشيخ بأن أحدا من الصحابة الأوائل لم يمارس الحرق، لكن لما سألتنى المذيعة عبر الأقمار الصناعية من القاهرة، قلت: إن الحقيقة غير ذلك.. فابن تيمية مثلا أقر حرق المشركين.. وأورد هذا فى فتاواه.
بعض مصادر كتب التراث، تنقل تحريق الخليفة أبو بكر (رض) بعض أعدائه بالنار، لكن الخليفة عمر (رض) وابن عباس رفضا تحريق الأعداء بالنار.. ولا حتى التمثيل بجثثهم بعد موتهم.
وفى الفقه الإسلامى آراء ثلاثة فى التحريق: الأول يحرم التحريق.. حتى ولو من باب المعاملة بالمثل. فلو حرق الكافر المسلمين، فلا يجوز للمسلمين تحريق الكافرين ردًا.
يستند هذا الرأى الذى قال به الإمامان الصنعانى والشوكانى إلى الآية القرآنية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا.. اعدلوا هو أقرب للتقوى».
الرأى الثانى أخذ به ابن قدامة، قال: إن تحريق الأعداء «مكروه».. وإنه متروك للقائد العسكري، أو ولى الأمر.. لكن يفضل تركه.
لكن المنسوب لابن تيمية، أنه أفتى بجواز تحريق الأعداء.. بعض أصحاب ابن تيمية قالوا: «إنه قصد تحريق الجثث بعد الوفاة».. والبعض الآخر قال: إنما قصد تحريق الأحياء.. إما دفعا لأقرانهم إلى الدخول فى الإيمان.. أو منعهم من تكرار العدوان.
سألت مذيعة البى بى سى الشيخ الأزهري: هل تحريق جندى العدو، يمكن أن يدفع زملاءه إلى الإيمان؟
رد الشيخ: إن الله يهدى من يشاء!
تفاقمت الأمور.. وزادت عن الحد. فلو داعش حرقت، ومزقت، وأساءت إلى صورة الإسلام.. فإن بعض علماء الأزهر أساءوا أيضا. بيان الأزهر كان إساءة كبرى.. وبالغة.
حسب الشيخ الأزهري، غريمى على شاشة بى بى سى.. فإن آية تقطيع الأرجل والأيدى من خلاف نص قرآنى.. وإن الأزهر عندما أوردها فى البيان، فإنه قصد تطبيق حد الحرابة على أفراد داعش إنقاذا للدين.. من غير أهل الدين!
لم يستسغ المجتمع الأوروبى هذا الكلام.
وفى المجتمعات الإسلامية هناك آراء فى أن ما يعتد به الأزهر من آية تدعو لتقطيع أيدى الأعداء.. وتصليبهم أو نفيهم فى الأرض فيه تفسيرات أخرى، وكلام آخر.. يرفع حكم الآية، ويمنعها من التطبيق فى المجتمعات الحديثة.
ويحكى عن الإمام أنس بن مالك أنه قال: ما ندمت قط على تفسير آية كما ندمت على آية الحرابة.. سألنى عنها الحجاج بن يوسف، وأضاف مالك: كان يعتد بها على الناس.
أى أن الحجاج حرق الأعداء، اعتمادا على الآية القرآنية.. مثله مثل داعش، بينما المقصود من قول الإمام مالك أن الآية مقصود بها شيء آخر.
فى كتب المفسرين المحدثين أن آية الحرابة كانت حكما خاصا برسول الله.. لا يجوز بعده الاعتداد بها على بقية الناس. فالآية الكريمة تبدأ: «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض..».
المعنى أنها مخاطبة لرسول الله وحده، وحكم خاص به (ص) وحده.
كثير من آيات القرآن الكريم خاطبته وحده.. فاقتصرت أحكام تلك المخاطبات عليه وحده، وسقطت نفس الأحكام بعد وفاته (ص). عندك مثلا آية: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيتهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم..» . بعد وفاته (ص) رفض عمر بن الخطاب أخذ الصدقة من تلك القبائل، بينما دخل أبو بكر فى حرب معهم حتى يدفعوا. قال عمر (رض) قولته المعروفة: لو لم تكن فتنة لمنعت أبوبكر.
حديث الإمام مالك عن اعتداد الحجاج بالآية «على الناس» كان يعنى أن الحجاج استخدم الآية فى غير ما نزلت من أجله أيضا.. لذلك ندم مالك كما قال.
فى القرطبى وابن كثير.. نزلت آية «الحرابة» فى نفر ممن جاءوا من قبيلة أخرى، جائعين .. اصفرت أجسامهم من الضعف، وطلبوا المساعدة من النبي، فأطلقهم مع إبل الصدقة، يأكلون من لحمها، ويشربون من لبنها.
إلا أنهم سرقوا بعض الإبل، وقتلوا الراعي، وهربوا بباقى الغنم.. فأمر بهم النبي، فقطع أيديهم وأرجلهم، وقال الإمام مالك: سمل أعينهم بالنار (أى أعماهم) لأنهم سملوا عينى الراعى.
الواقعة فى كتاب البخارى.. لذلك نحن فى معضلة.
فالذى حدث أن داعش حرقت الطيار الأردنى امتثالاً لسنة أبوبكر (رض) فى حرق الأعداء، فشوهت الدين وأقامت العالم.
رد الأزهر، بتقطيع أيدى داعش وأرجلهم، ردًا على جريمتهم الشنيعة، وخروجهم من الدين، استنادا إلى تفسيرات هى الأخرى ضعيفة.. أو حجج قديمة فيها كلام فى تفسيرها وإعادة تأويلها.. فأقام العالم أيضا.
ما الحل؟ أين الوسطية؟
الوسطية يا سيدى العزيز.. فى مزيد من المرونة.. ومزيد من إعادة الفحص.. ومزيد من محاولات الفهم.
مثلا، إنه لو ثبت أن حرق أبو بكر أعداءه، فلا يجوز أن نمارس الفعل نفسه.. لأن التحريق اجتهاد من أبو بكر، وفق أرضيته المعرفية، وظروف عصره.
الوسطية أن نعتبره اجتهادا خاطئا، لا هو من الدين.. ولا هو قرآن، أما آية الحرابة، فإنه غير نزولها للنبى بشخصه، فإن الوسطية، ومرونة الدين تتيح للمسلمين بعد أكثر من 1400 سنة، الالتفاف على النص.. وإيقاف العمل به، لو أدى العمل به إلى مفسدة.
المفسدة فى دعوة الأزهر إلى تطبيق حد الحرابة هو مزيد من التشويه لصورة الإسلام حول العالم، فى وقت نحتاج نحن من العالم الاطمئنان للمسلمين، والاعتراف بسماحة دينهم، وإنسانية أفراده.. هذه واحدة.
الثانية، أن مرونة الإسلام، أقرت قاعدة هائلة فى الفقه، سهلت للدين استيعاب الأحداث، والتعامل مع ظروف العصر.. أيًا كانت.
القاعدة هي: «جواز تغيير التعامل بالأحكام الشرعية، إذا تغيرت الظروف وتغير الزمان».
ليست قاعدة حديثة. هى قديمة من زمن المسلمين الأوائل. وهى القاعدة التى طبقا لها أوقف عمر بن الخطاب سهم المؤلفة قلوبهم، برغم الآية الواردة فى القرآن صراحة فى ذلك. وهى القاعدة أيضا التى أوقف من خلالها عمر بن الخطاب حد قطع اليد فى السرقة عام الرمادة.. رغم النص الصريح أيضا فى القرآن: «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما».
هذه هى الوسطية. هذه هى سماحة الدين.. هذه هى مرونته، وقدرته على استيعاب المتغيرات.. وظروف العصر.
كان الخليفة عمر بن الخطاب (رض) وسطيا قبل أكثر من 1400 عاما، لكن أغلب علماء الأزهر فى العام 2015.. لا يعرفون للآن ماذا تعنى «وسطية» الإسلام.
بعضهم كداعش. هؤلاء يحرقون.. وهؤلاء يفتون بقطع الأيدى والأرجل!
على حسابى على موقع تواصل اجتماعى جاءتنى رسالة من مسلم فى هولندا: «حاربك الله.. تفتئت على أبوبكر.. والأزهر.. لن تذهب معك فلوس الفضائيات إلى قبرك».
هذا فقط ما فهمه أخونا المسلم فى هولندا: الفلوس!
الأزهر فى أزمة. صورته تحيطها هالة من «كارثة».. وأخونا المسلم فى هولندا بيقولك: الفلوس؟! •
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف