طارق الشناوى
الدرس الأهم في مهرجان برلين
هل يمكن أن نقسم السينما، أقصد إلى كلاسيكية وحداثية؟ نظريا ممكن، ولكن بالنسبة لى أرى أن السينما والفن عموما ليس موضة أو بحثا عن الجديد والمختلف، كما أن محاولة تغيير لغة السرد فى كل الفنون والسينما تحديدا ليست ابنة هذا الزمن، وفى العادة تتلاقح الفنون، فتلمح مثلاً وعند قطاع وافر من الأدباء روح السينما مسيطرة على السرد الأدبى، ولا تزال فى عديد من الأفلام تنضح بين الحين والآخر روح الحكى القصصى.
لا تستطيع أن تقسم الفن إلى مرحلة ميلاد، وفى العادة يغلب عليها الروح التقليدية، ثم تأتى مرحلة نمو ومراهقة، قد تسمح بالانتقال إلى التجريب، حيث إنه له حضوره الدائم حتى منذ البداية ستجدونه مصاحبا للإبداع، وهو فى جزء ما يشكل ميلاد الفنون بأسرها، مثلا الساحر الفرنسى جورج ميليش، الذى بدأ السينما وهى لا تزال تحبو، ولكنه تمرد فى حدود الإمكانيات البدائية لينقل الخيال إلى واقع مع بدايته مثل فيلم الصعود إلى القمر ، الذى أعاد مهرجان كان عرضه ضمن فاعلياته قبل بضع سنوات تقديرا لهذا المخرج، ومن خلاله تستطيع أن ترى بدايات الجنوح فى التعبير السينمائى، حدث هذا عام 1902 بينما الأخوان لوميير لويس وأجوست اللذان بدآ السينما عام 1895 بأسلوب السرد الواقعى الذى يمثل فى القطاع الأكبر الحالة السائدة.
ولكن تاريخ التطور ليس هو بالضرورة انعكاس فقط لتطور الآلة التى يقف خلفها المخرج، بقدر ما هو أيضا مرتبط بتركيبة المبدع الشخصية، تستطيع وأنت تتابع أفلاما عديدة فى مهرجان برلين وهى تتحدث سردا بمعناه الكلاسيكى، ولكن لا يعنى ذلك أنها الأفضل، ولا أن هذا هو فقط الصحيح، لديك مثلا فيلم آينشتاين فى جوانخوتو للمخرج بيتر جيرنواى، الذى رشحه كثيرون للدب الذهبى، ولم يحصل عليها بالطبع، ولا على أى جائزة أخرى، والفيلم تعددت فيه التفسيرات السياسية والفكرية، وهو ما يجعل الشريط السينمائى يميل بقوة إلى التعبير عن الحداثة فى اللغة السينمائية، بينما وعلى المقابل لدينا فيلم تاكسى لجعفر بناهى، الذى يشكل أكبر التزام بالأسلوب التقليدى فى السرد، فهو لا يخرج عن السائد والمباشر، بل إن التركيبة السينمائية نفسها شاهدناها عشرات المرات روائيا وتسجيليا، ولكن الجديد الذى منحه الفيلم هو الإحساس الفنى فى التعبير، حيث الهدوء على السطح والسكون المباشر، لكنه يخفى العمق الفكرى حيث اللمحة والنظرة هما ما يمنحنا نشوة فى التلقى، وهو ما يمكن أن نراه مجسدا فى الطفلة التى تسلمت الجائزة هناء السعيدى، التى شاهدناها فى الفيلم باعتبارها أحد رواد التاكسى، حيث كان التعبير تلقائيا من خلال المخرج، بل وعفويا أيضا فى حواره معها داخل الفيلم.
الغريب أن المخرج الذى لم يلقَ -غالبا- ترحيبا من إيران، أتحدث بالطبع عن الدولة الرسمية، إلا أنه على الجانب الآخر يتلقى أيضا العديد من الضربات التى ترسل له من خلال الإعلام فى محاولة للتقليل من قيمة الجائزة الفنية، واعتبارها مجرد موقف سياسى من ألمانيا، أو لو اتسعت الدائرة لاعتبرها موقفا سياسيا من أوروبا وأمريكا كلها، وبالمناسبة لم يظهر حتى الآن بيان رسمى من إيران يستهجن أو يرحب بالجائزة، ولكن بعيدا عن كل ذلك فإن ما أراه هو فى تحليلى للجنة التحكيم عموما أن الجوائز عبرت عن مزاج فنى واحد، والأمر ليس متعلقا برئيس لجنة التحكيم المخرج الأمريكى دارين أرونوفسكى، الذى يحاول البعض أن يعتبروه قرارا أمريكيا برغم تعدد جنسيات الأعضاء التسعة باللجنة، وهو نوع من القراءة التعسفية للجوائز، لينفى عنها مصداقيتها وتحديدا لينفى عن المخرج الإيرانى جعفر بناهى وفيلمه تاكسى جدارته بالجائزة.
مواقف المخرج خارج الفيلم وداخل الفيلم أراها وطنية، كما أن التحليل الذى قدمه داخل فيلمه هو تحليل بالدرجة الأولى اجتماعى وليس سياسيا، ومن البديهى أن المخرج لم يصور هذا العدد من البشر فقط، ولكنه اختار وانتقى، وهذا بالتأكيد لا يتعارض مع مصداقية الفكرة، لأنك فى النهاية لن تستطيع أن تزيف الواقع، والفيلم تحديدا لم يكن هدفه الحقيقى سوى أن يقدم الواقع، حتى لو تدخل المخرج بالحذف، فإن هذا يعمق الرؤية الاجتماعية ولا يطرح على الإطلاق رأيا سياسيا، هنا تبدو قيمة العمل الفنى الذى حرص مخرجه على التنوع وعلى ضبط الإيقاع فى الصورة والصوت، ومن هنا جاءت الجائزة لمن يستحقها.
الجوائز انحازت للسينما التى تتوجه أولا للمشاعر، وهو ما يمكن أن تجده وبقوة فى فيلم لم يحصل على أى جائزة، بسبب بسيط أنه عرض على هامش قسم البانوراما ، ولكنه حقق من خلال متابعتى لأفلام المهرجان أكبر قسط من التصفيق لم أشهده إلا فقط مع فيلم بناهى.
الفيلم البرازيلى الأم الثانية أنثوى بامتياز، للمخرج والكاتبة آمنة مايلر، وهو ليس أنثويا بالمعنى المباشر، لأن المخرج والأبطال من النساء، ولكن لأنه بالفعل يمسك بتفاصيل تستشعرها النساء أكثر، نجحت المخرجة فى تحقيق كل هذا الحضور لفيلمها، لأنها انحازت للإنسان بعيدا عن قيود التاريخ والجغرافيا، كل ذلك من خلال لغة سرد سينمائية تقليدية فى بنائها الفنى، لكنها تفيض بالمشاعر، حيث يتناول الفيلم قصة أم تنتقل للعمل فى مدينة ساو باولو قبل عشر سنوات، وتترك ابنتها مجبرة بعد خلاف مع زوجها، وعندما تأتى الابنة بعد كل هذا الزمن ولا تجد أن أمها التى تعمل خادمة فى أحد البيوت قد حققت شيئا ماديا، فتعيش فى غرفة صغيرة ملحقة بمنزل العائلة الكبير، التى يبدو أفرادها كل منهم بمعزل عن الآخر.
تأتى الابنة إلى أمها وقد صارت فى السابعة عشرة من عمرها لتلتحق بالجامعة، وتبدأ رحلة أخرى تكشف فيها المخرجة عن قدرتها غير المحدودة عن الإمساك بالتفاصيل، وهى تقدم لغة سينمائية أيضا، لو وضعتها تحت المنظار الأكاديمى لظلت فى إطار التعبير السردى السينمائى بصريا وصوتيا، فقط تنحاز فيه باللغة التقليدية.
من الواضح أن سينما المشاعر هى التى فازت فى مهرجان برلين فى دورته الاستثنائية رقم 65، فاستحقت تصفيق الناس، واستحقت أيضا الجائزة الكبرى التى حصل عليها تاكسى ، ومن حق جعفر بناهى أن يفخر بها فنيا، ومن حقنا أن نصفق له فنيا بعيدا عن تلك الحسبة التى تحاول التقليل من قيمة الفيلم وقيمة المخرج.