لا يمر يوم فى مصر الآن دون قنابل على أبراج كهرباء ومتفجرات منصوبة لكمائن الشرطة واغتيالات مخططة، وحرب شوارع كل جمعة فى المطرية وحلوان وبعض عشوائيات الإسكندرية، حتى بدا الإمساك بالحياة الطبيعية فى شوارعنا مثل حلم ليلة صيف فى شتاء القاهرة القارس.
عنف حاد يعمل على تحديد مستقبل مصر، ومصر على مفترق طرق حضارى، تخوض فيه صراعًا شرسًا مخيفًا بين العودة إلى الماضى فى ثياب جديدة أو الوقوع فى براثن استبداد دينى أكثر شراسة من أى استبداد آخر، أو كسر شرنقة التخلُّف والانطلاق إلى العصر الحديث.
ويصبح السؤال الدائر حاليا فى كل بيت فى مصر: متى ينتهى العنف؟ هو نوع من السذاجة، فالإجابات المنتظرة لن تأتى قبل أن يحسم هذا الصراع لمصلحة طرف على حساب طرف آخر، إذ تبدو فكرة التعايش بين الأفكار المتصارعة صعبة، إن لم تكن مستحيلة.
ويتصوَّر بعض المفكرين أن الوقت قد حان ليدفع المصريون الثمن الباهظ المطلوب لإحداث تغيير جوهرى فى مجتمعهم، متعللين بتاريخ البشر، إذ لا يعرف تغييرًا هائلًا دون صراع ودم، خصوصًا فى المجتمعات التى تعانى انقسامًا واستقطابًا حادًّا بين أفكار متعارضة إلى حد التناقض!
والتاريخ فعلًا متخم بمثل هذه الحكايات الملتهبة منذ بدء الخليقة، وإذا عدنا إلى قصة أول دماء مسفوكة على الأرض، وهى دماء هابيل على يد أخيه قابيل، ماذا حدث؟!
ببساطة -دون الخوض فى تفاصيل القصة المذكورة فى الكتب السماوية- كانت محاولة لإحداث تغيير جوهرى فى نظام الزواج ، إذ طمع قابيل فى الزواج من أخته التوأم، على عكس القاعدة المعمول بها، وسنَّها أبونا آدم بتعاليم من السماء، وكانت درسًا بليغًا له جوانب متعددة، منها أن التغييرات الكبرى لها تكاليف وضحايا!
ولم تسلم منها الأديان السماوية نفسها، وهى ثورات فى الفكر والقيم والتوجهات أحدثت تغييرات عظمى فى مسار الإنسانية، عَبَرت بها إلى عوالم جديدة مختلفة تأسَّست على تضحيات هائلة من المؤمنين بها ضد الرافضين لها، مع أنها كانت مدعومة من السماء ومنزلة على أنبياء ورسل انتقاهم الله لإبلاغ رسالته إلى الناس.
هذا هو القانون.. فأى شىء يدفع الإنسان ثمنه يحافظ عليه ويسكن فى عقله ويستقر فى وجدانه ويعض عليه بالنواجذ.
وإذا رجعنا إلى مصر نجد أن المصريين فى العصر الحديث لم يصنعوا تغييرًا جوهريا فى نظم حكمهم منذ صعود محمد علِى باشا إلى سُدَّة السلطة، لأنهم لم يدفعوا ثمن هذا التغيير إلى نهايته، دائمًا يدفعون جزءًا من الثمن فقط، فمحمد علِى بنى دولته على هواه لا على هوى المصريين، فكان طبيعيا أن لا تؤسَّس على القواعد التى عرفها العالم بعد الثورة الفرنسية، والثورة الفرنسية ذاتها كانت على درجة غير مسبوقة من العنف، فلم يستقر المجتمع الفرنسى وجمهوريته إلا بعد عشرات السنين من القلاقل والاضطرابات القاسية.
وكان يفترض أن يتعظ المصريون من التاريخ وحكمته، ويسهلوا على أنفسهم ويختصروا طريق العنف إلى أقل قدر ممكن، لكن جماعة الإخوان لم تترك لهم الفرصة، ولا النظام القديم تقهقر تاركًا مساحة لهواء نقى ورياح جديدة تبنى وطنًا مختلفًا وقويا.
ولن يتوقَّف العنف قبل حسم الصراع!