بوابة الشروق
فهمى هويدى
عن السلوك الاستفزازى
هل آن الأوان لكى نتحدث عن «سلوك» يعبر عن الأزمة فى مصر؟ ــ ردى السريع أننا إذا لم نفعلها والجنيه المصرى يترنح أمام الدولار، والموقف الاقتصادى قارب حد الخطر، فمتى نفعلها إذن؟ أدرى أن ثمة إجراءات يتحدث عنها الخبراء، كما أن هناك سياسات تحتاج إلى مراجعة، إلا أننى أزعم بأن ذلك ليس كافيا، لأنه من الضرورى أن تكون سلوكيات الدولة ورموزها معبرة بدورها عن الأزمة، بحيث يعتبر البذخ والإسراف فى الإنفاق والمبالغة فى المظاهر التى لا لزوم لها من المنكرات التى ينبغى وضع حد لها.

الصين فعلت ذلك، إذ بثت وكالة «شينخوا» الرسمية للأنباء تقريرا يوم الأربعاء الماضى (٢١/١٠) تحدث عن قواعد جديدة لتحقيق الانضباط فى السلوك ومحاربة البذخ بين كبار المسئولين وأعضاء الحزب الحاكم، بحيث يكونون نموذجا يحتذى للاحتشام واحترام مشاعر المواطنين العاديين. وهذا النهج دعا إليه الرئيس الصينى تشى جين بينج منذ تولى رئاسة الدولة فى عام ٢٠١٣. إذ ظل يحارب الإسراف والبذخ فى سلوك الشخصيات العامة. من خلال لوائح صدرت لضبط ذلك السلوك ومنع استفزاز الشعور العام بما يستصحبه ذلك من بذخ وفساد. وشدد على ذلك حين لاح شبح الأزمة الاقتصادية العابرة التى تمر بها الصين. الأمر الذى دفع السلطة فيها إلى تخفيض عملتها (اليوان) فى شهر أغسطس الماضى بنسبة ١.٩. حتى وصل إلى أدنى مستوى له فى مواجهة الدولار، الأمر الذى لم يبلغه منذ ثلاث سنوات. وكانت الصادرات قد تراجعت بنسبة ٨.٣٪، ووصلت إلى مستوى لم تبلغه منذ ست سنوات.

فى أجواء الضعف الذى عانى منه ثانى أكبر اقتصاد فى العالم لم تكتف السلطة بتخفيض العملة، وإنما لجأت أيضا إلى إصدار قواعد جديدة لتحديث اللوائح المعمول بها لضبط سلوك القيادات والمسئولين فى الدولة. ولأول مرة ستطبق على أعضاء الحزب الشيوعى الحاكم البالغ عددهم ٨٨ مليون شخص. وذكر تقرير الوكالة الرسمية الصينية أن «تنظيم الانضباط الجديد يعتبر الإسراف فى الطعام والشراب ولعب الجولف من المخالفات التى لم تكن مدرجة من قبل ضمن المحظورات». ذلك ان لعب الجولف فى الصين لا يعد من مظاهر الترف الباذخ فحسب، ولكنه يرتبط فى الذهن العام بالأجواء التى تعقد فيها الصفقات الغامضة التى يتسرب منها الفساد إلى أجهزة الدولة ومؤسساتها. وبسبب ذلك أقيل فى الشهر الحالى نائب رئيس إحدى بلديات جنوب شرقى الصين بسبب انتمائه إلى ناد للجولف والانهماك فى ممارسة اللعبة فى الأوقات التى يتعين عليه التواجد فى مقر عمله.

بالتوازى مع ذلك دأبت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى على التحذير من التبذير فى شراء الهدايا فى المناسبات العامة، كما جرى التنبيه على وسائل الإعلام بمنع نشر الإعلانات الاستفزازية. وعوقب بعض قادة الحزب لأنهم أقاموا حفلات باذخة أثارت الاستياء فى محيطهم الاجتماعى.

أيا كانت التفاصيل فالشاهد أن السلطة فى أجواء الأزمة واحتراما لمشاعر المواطن العادى، فإنها مثلما حاربت إنتاج السلع الاستفزازية إلا فى حدود متطلبات التصدير إلى الخارج، فإنها حاربت أيضا السلوك الاستفزازى. وبذلك فإنها حققت ثلاثة أهداف فى وقت واحد. أولها تربية المجتمع على السلوك الاقتصادى الرشيد من خلال وقف مظاهر البذخ وسد منافذ الفساد، وثانيها قيام السلطة والحزب بضرب المثل وتقديم النموذج المطلوب احتذاؤه. أما ثالثها فهو الانحناء أمام عاصفة الضعف الاقتصادى والسعى لتمريرها بأقل الخسائر الممكنة.

لست أدعو إلى استنساخ القواعد الجديدة للسلوك فى الصين، لكننى فقط أدعو إلى استلهام الفكرة التى تضع الحد من السلوك الاستفزازى على الأجندة. ومساواته بالترويج للسلع الاستفزازية. وإذا قال قائل بأن استيراد السلع الاستفزازية ليس محظورا فى مصر من الأساس فكيف ننتقد السلوك الاستفزازى فسأوافقه تماما وسأضم صوتى إلى صوته. وسأضيف فقط أن ذلك الخلل يجسد الفرق الأساسى بين دولة لديها رؤية ومشروع كالصين، ودولة أخرى بلا رؤية ولا مشروع تعد مصر الراهنة من نماذجها. بسبب من ذلك فإننا نسمع كلاما كثيرا عن خطورة الأزمة الاقتصادية وجهود الاقتراض من الخارج، فى الوقت الذى تمارس فيه السلطة ومؤسساتها مختلف صور السرف فى المشروعات العملاقة والمقرات الفارهة والحفلات الباذخة، إلى جانب الإفراط فى إغراق بعض المؤسسات دون غيرها بالرواتب العالية والبدلات التى توزع بغير حساب بمناسبة وبغير مناسبة.. إلى غير ذلك من المظاهر التى لا يحتمل المكان التفصيل فيها، أو لا تحتمل الأجواء الإشارة إليها. وسأكتفى فى هذه النقطة بالإشارة إلى واقعة لها دلالتها سمعتها من أحد الدبلوماسيين المصريين فى موسكو. ذلك أن وفدا مصريا ذهب إلى العاصمة الروسية لشراء بعض قطع الغيار المطلوبة. لكنه فوجئ بمضاعفة الأسعار المعروضة عليهم. وحين أبدى أعضاؤه استغرابهم لذلك، قيل لهم إن بعض وفودهم زارت القاهرة ودعيت للعشاء فى مقرات فاخرة لاحظوا فيها البذخ الشديد، وأدهشهم أن بعض أعمدة المكان طليت بماء الذهب. وحين أخبرونا بذلك قررنا رفع أسعارنا، لأنكم إذا كنتم تنفقون بهذه الصورة على فنادقكم فأولى بكم أن تدفعوا ثمنا مرتفعا لما تحتاجونه من قطع الغيار الضرورية.

إن وقف استيراد السلع الاستفزازية فى أجواء الأزمة بات أمرا لا مفر منه. أما الحد من السلوك الاستفزازى فهو يختبر جدية السلطة فى التعامل مع الأزمة، لأنها فى هذه الحالة يجب أن تبدأ بنفسها، وذلك أمر ليس سهلا، خصوصا فى ظل غياب المساءلة والحساب.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف