التحرير
شعبان يوسف
مئوية ميلاد الفنان كامل التلمساني
«يقال إن النسيان نعمة.. وهو نقمة.. وأنا أحب قطعة النقود الفضية الحاملة لصورة فاروق ولا أنساها.. وأحب أن تأتى لى كثيرًا فى حسابى عندما أشترى شيئا.. إنها تذكرنى دوما بصورة الملكية وصورة الاستعمار، وأحتفظ بقطعة النقود التذكارية للجلاء.. ولتأميم القناة.. صور الجمهورية والتحرير، أحتفظ بها لأولادى -فقد أُرزق يوما أولادا- وإلا فسيكون كل ما أتركه لورثتى.. بعد عمر طويل، وها أنت ترى أنى أترك لهم ثروة ضخمة على كل حال.. آمل ألا أضطر إلى التصرف فيها يوما».

هذه الكلمات جاءت كمقدمة لفصل الخاتمة وبعد ، لكتاب سفير أمريكا بالألوان الطبيعية ، وهو بالطبع عندما يتحدث عن الثروة التى سيتركها لورثته، يضمر هذا الكتاب الذى نشرته دار الفكر ، وظهر للناس عام 1957، وصمم غلافه الفنان حسن فؤاد، وأنجز الرسومات الداخلية الفنان جورج البهجورى، وقدمه إبراهيم عبد الحليم اليسارى الشيوعى، متحمسًا له بشدة وكذلك كان متحمسًا للتغيرات السياسية التى أحدثتها ثورة يوليو عام 1952، متسائلا: أى تغير حدث فى مصر؟ ، ثم مجيبا ومستطردا: كل شىء لم يعد كما كان منذ سنين قليلة.. كل شىء يتغير ويسير إلى الأمام، والناس يولدون من جديد، والأشياء التى ظلت تبرق وتفرض سيطرتها خلال العمر الذى عشناه زال بريقها وانكشف زيف لمعانها وانتهى جبروتها كما حطم المؤمنون الأصنام.. اسم مصر أصبح اليوم يقترن باسم رجل شريف وبسيط وشجاع من أبنائها.. جمال عبد الناصر.. وأصبح يقترن بكرامة وآمال الناس البسطاء فى كل مكان فى العالم ، كان هذا الكلام يقوله الشيوعيون قبل أن يستقر معظمهم فى معتقلات يوليو بعامين فقط، فـ كل شىء جميل فى شعبنا وفى أرضنا وفى تراثنا وثقافتنا يجد اليوم طريقه ليظهر ويتفتح ويعلن وجوده ويفرض إرادته ، ويا لدروس التاريخ التى لا تنتهى، ولكن النسيان نقمة كما قال التلمسانى، الذى قال عنه عبد الحليم فى مقدمته: وفى هذه الفترة -فترة السنين الخمس الماضية- ولد كامل التلمسانى من جديد كما ولدنا جميعا.. لقد رفعت عن عينيه الغشاوة كما رفعت عن عيوننا جميعا، وعاد الفنان الذى أخرج فيلم (السوق السوداء) سنة 1945 ليكتب سنة 1957 (سفير أمريكا بالألوان الطبيعية)، وليربط إنتاجه باحتياجات شعبه وقد أصبح الطريق أمامه أكثر وضوحا . وكذلك يهدى التلمسانى كتابه إلى جمال عبد الناصر: المفكر الذى كتب فلسفة الثورة الذى قرأته مرارا ومرارا .

وبعيدا عن هذه الطموحات السياسية التى جاءت بأقلام التلمسانى وعبد الحليم، والتى كانت تنتشر لمعظم اليساريين فى ذلك الوقت المعروف بشهر العسل المؤقت بين اليسار وسلطة يوليو، كان الكتاب غاية فى الجمال، وعمق التحليل، ووضع أفلام هووليود الأمريكية فى رؤية واضحة، متحديا أى محاولة لهلوَدة الأفلام المصرية والعربية.

ولكن كامل التلمسانى الذى قال عنه عبد الحليم إنه ولد من جديد، ورفعت عن عينيه الغشاوة، لم يكن هكذا بالفعل، ولكنه الحماس والانفعال بالمرحلة -وهذا يحدث دوما على مدى التاريخ- هما اللذان يدفعان الناس إلى الكلام الساكت أحيانا بطريقة، والمتكلم والمشير إلى علاقات وتربيطات وخطط وأنواع من المشاركات الوهمية وخزعبلات فى أحيان أخرى، لم يكن على عينى التلمسانى المولود فى قرية نوى بمحافظة القليوبية فى 15 مايو 1915 أى غشاوة من أى نوع، منذ أن ترك دراسته فى كلية الطب البيطرى، واتجه إلى فن الرسم والتصوير، وراح يكتب مقالاته عام 1936 فى مجلة مجلتى لصاحبها أحمد الصاوى محمد، ورسم أول ديوان للشاعر جورج حنين عام 1938، ثم أسس مع رفاقه السيرياليين العظام جورج حنين وأنور كامل وفؤاد كامل ورمسيس يونان وغيرهم من جماعة الفن والحرية، وأصدروا بيانا تحت عنوان يحيا الفن المنحط فى 22 ديسمبر 1938، ووقّع على هذا البيان أربعون فنانا من جنسيات مختلفة، فى مواجهة الهجمة الهتلرية على الفنون، ووصفها بأنها فنون منحطة ورديئة، وشاعت معارضة هذا البيان فى جميع أنحاء العالم، وغير ذلك شارك مع رفاقه فى إصدار مجلة التطور التى لعبت دورا مهمّا فى تطوير طريقة النظر إلى الفن.

ولكن التلمسانى الذى استغرقته عملية الرسم والفن التشكيلى، كان قد وقع فى تناقض ما، وسعى لكى يفك شفرة هذا التناقض، الذى يكمن فى شعوره الطاغى بالإحساس بالناس، وقضاياهم، ومحاولة التواصل معهم، ولكن الفن التشكيلى لا تستفيد منه سوى فئة أو طبقة محدودة، هذه الطبقة هى الأغنياء الذين لا يسعى لمخاطبتهم، فكفّ قليلا عن ممارسة هذا الفن، وبعد ذلك قرر التحول إلى السينما، وأخرج فيلمه الأول السوق السوداء ، الذى صنفه النقاد على أنه من أوائل الأفلام الواقعية فى مصر، وراح كامل التلمسانى يخطو خطوات حاسمة فى السينما المصرية، وكتب كتابين ذوَى أهمية بالغة، وهما الكتاب الذى نوهنا به سلفا وهو أمريكا بالألوان الطبيعية ، ثم كتاب عزيزى شارلى شابلن، وبقدر ما كان كتاب شارلى شابلن يفصح عن وجوه غائبة عن هذا الفنان العظيم، فإنه كان يكشف عن شغف التلمسانى نفسه بعالم السينما منذ طفولته.

ولم يكتفِ التلمسانى بإنتاج هذين الكتابين، بل له مقالات كثيرة شائقة وجذّابة وعميقة فى السينما وفى الفنون عموما، وفى عام 1958 بدأ يكتب سلسلة مقالات وبورتريهات مطولة عن فنانين مصريين، مثل فاتن حمامة وإسماعيل يس وتحية كاريوكا وغيرهم، وفى 17 فبراير 1958 كتب مقالا بديعا عن محمود المليجى، يفصح فيه عن أزمة هذا الفنان العظيم مع أدوار الشر التى كان يقوم بها فى السينما المصرية.

ليتنا قبل أن تحل مئوية هذا الفنان الكبير كامل التلمسانى تقوم مكتبة الأسرة بجمع رسوماته وكتاباته ونشرها فى مجلدات، ليس لإحياء ذكراه فقط، بل لتتعرف الأجيال الحديثة على فنان كان له الأثر البالغ فى تطوير فنوننا التشكيلية والسينمائية على السواء.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف