بداية ونهاية، تحفة مصرية صنعتها مواهب نادرة نجيب محفوظ وصلاح أبو سيف وسناء جميل وصلاح منصور وعمر الشريف وأمينة رزق وغيرهم ، فى الفيلم مشهد لا يمكن نسيانه لفرح يغنى فيه فريد شوقي: واللا زمان زمان واللا، لم يكن الغناء بالطبع يطرب أحدا، وعندما تعالت الاحتجاجات نزل فريد بقامته الفارعة الى مقاعد المستمعين ليضرب برأسه الفولاذى من اعترض، ثم واصل الغناء، هذا المشهد يعود الى ذاكرتى كشاهد على ما يحدث لنا هذه الأيام ، فالدولة ما زالت تستهين بالسامعين.وتصر على العزف بمفردها ،ولم تدرك بعد أن هذا اللحن المستهلك لم يعد يحرك مشاعر الكثيرين، وتصرعلى العزف بلا نوتة، وكأنها لا تدرى أن التحديات لم تعد تسمح بالارتجال.
دشنت مظاهرات الشباب فى 68 ظهوراول جيل شباب عالمى يسعى جماعيا للتغيير، ورفض هذا الجيل أن يواصل القادة التقليديون التحكم فى مستقبل الأجيال القادمة، بعد أن دفعوا بالإنسانية الى حرب عالمية مهلكة،بدأت بذلك رحلة تصعيد الأجيال الشابة الى مواقع القرار، واتذكر أن وزير مالية إيطاليا فى الثمانينيات جوريا والذى كلف بإنقاذ البلاد من ورطة كبيرة كان عمره وقتها 28 عاما، ولكن مجتمعاتنا بأنظمتها المزمنة لا تترك للشاب أى فرصة ، إلا اذا كان نسخة مطابقة للنظام أو من قلبه: ابن الرئيس أو ولى العهد وما شابه ذلك، أومن بين أنجال المستفيدين من مصاهرة السلطة للثروة، وتقوم هذه الانظمة على الجانب الاخر، بتفريخ نماذج مطابقة لها داخل حضانات تجهزها بمعرفتها وعلى يد رجالها المخلصين، وهكذا لا تكتفى بتبوير الحاضر، وانما تقطع الطريق بالمثل على المستقبل: ومبررها الأبدى والقوى هو غياب البديل . إنه سلوك مخالف حتى لقوانين الطبيعة، فالقطيع الحيوانى يستبدل الذكور التى شاخت بتلك االأكثر شبابا حرصا على مصلحة القطيع.
عزوف الشباب عن المشاركة فى الانتخابات البرلمانية، حقيقة ساطعة، وليس أمرا مفاجئا، فهناك تباعد ملحوظ بين خطاب وممارسات الدولة وطموح هذا الجيل من الشباب، والجو السابق على الانتخابات بعد تأجيلاتها العديدة، تم شحنه بالريبة والشكوك فى جدوى البرلمان، ثم فوجنا بتلميح الرئيس إلى تعديل الدستور حتى تتقلص صلاحية البرلمان. وهكذا يواصل النظام إهدار الفرص، فالانتخابات كانت فرصة للتأكيد على التعددية، ولتوسيع المشاركة، ولكن ما حدث انها تحولت الى ما يشبه المظاهرة، للحشد فى اتجاه واحد، مظاهرة تسير فى اتجاه معاكس لما كنا نتمناه بالفعل.
مؤسسات الدولة تمارس مهامها بنفس الروح التى ورثتها من الأنظمة القديمة الشائخة، بما فى ذلك وزارة الشباب، والتى تهتم بالكرة اكثر من اهتمامها بتمكين الطاقات الشابة من الوصول الى مواقع التأثير، ولا تقدم مقترحات جادة للإحلال والتصعيد، والنظام يكتفى بالحديث عن مساعدين شباب للوزراء والمحافظين ولا يلتزم حتى بما وعد به. هل قامت مؤسسة رسمية واحدة، واحدة فقط، بعمل حوار حقيقى مع الكوادر الشابة العاملة داخلها، حول السياسات الحاكمة لعملها، لتكتسب من ابناء هذا الجيل مدخلات جديدة قد تعدل من هذه السياسات أو تثريها. تباعد الشباب ليس ظاهرة تخص المؤسسات الرسمية وحدها، فالعناصر الفاعلة داخل هذا الجيل لا تنجذب للعمل بالمثل مع منظمات المجتمع المدنى ولا مع الأحزاب القائمة، التى تحصنت داخل جدرانها، لتتحول الى هياكل محافظة او إصلاحية فى أفضل الأحوال، وهذا مناخ لا يجذب هذه الأجيال الطامحة لتغيير حقيقي.
قاد ثورة يوليو مجموعة من الشباب وكان لحيويتهم هم ومن التف حولهم من المثقفين والفنانين وأغلبهم كانوا بدورهم فى عز الشباب، أثار واضحة على المجتمع بأكمله، حكم عبد الناصر مصر شابا ودخل التاريخ ومات وعمره 52 عاما، ولكن مع تجربة السادات بدأ التقدم فى العمر يصبح السمة السائدة لصناع القرار، وقادنا مبارك الى ما يشبه سيطرة كاملة للكهول الذين يعاندون الزمن بشهوتهم المفرطة للسلطة والثروة، ويزيحون كل بديل ممكن بقسوة، كم جيل حرقه مبارك ونظامه التعيس؟ وما الثمن الذى دفعته مصر وهى تمنع أجيالا كاملة من التحقق ؟ وهل يمكن مواصلة السيرعلى نفس المنوال.؟
انسداد الأفق يدفع شبابنا كما يقول علماء الاجتماع، الى التطرف والعنف و الإدمان أو الى العدمية والكفر بكل شيء، ولكنه ربما يدفعهم أيضا لمواجهات لا طاقة لنا بها الآن، فلدى أبناء هذا الجيل، قدرات كامنة بالفعل، ولا تجد البلاغة والشعارات السائدة طريقها الى قلوبهم ، لديهم فى مخزون الذاكرة القريبة، خبرات تخصهم ، وهى الخبرات التى اكتسبوها عند اصطدامهم بشجاعة مع نظام مبارك واسقاطهم لرموزه الكريهة، ومن دورهم الكبير فى مقاومة فاشية الإخوان، انها سلطة اللا عنف، ومصدرها عدالة المطالب، لدى الشباب وسائل للتواصل والتفكير الجماعى لا يمكن تقييدها، وباستطاعتهم وهذا هو الأهم، التحول فى لحظة الى كتلة محتشدة وهادرة، قوة مادية لا يمكن وقفها، لأنها تصبح حاسمة مثل ظواهر الطبيعة، لديهم بحكم عمرهم رصيد هائل من المرونة، ويبتكرون ممارسات خارج افق التوقعات، لأنهم لا يتبعون مرجعيات ملزمة، فهل سيواصل النظام القائم الاستخفاف بكل هذا، كما فعلت الأنظمة السابقة.؟
إهدار الطاقات والموارد ليس ملمحا يخص موقف الدولة من الشباب وحدهم، فهو أحد أشكال الهدر المتواصل لكل امكانات مصر فى كافة المجالات، ولكن أخطر تجسدات هذا الهدر الآن، وبعد كل ما قدمه المصريون من تضحيات، هو تفويت الفرص المتاحة للتغيير، هذا يفوق الان كل اشكال الهدر الأخرى، لأن التغيير هو بداية الحل، والتغيير هو وحده البداية، وعندما نسد الطريق على التغيير الحقيقي، ونكتفى بسد الثغرات وتبديل الوجوه وتضخيم الانجازات، فإننا نقوم بذلك بتضييع فرصة تاريخية، فرصة لتغييرمستقبل بلد بأكمله، وليس فقط مستقبل هذه الأجيال وحدها.