بوابة الشروق
عبد اللة السناوى
سمية والبرلمان
على شاشات الفضائيات بدت المفارقة كاشفة لمدى الاهتمام العام بإعلان نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية.
فى لحظات الذروة أدارت أغلب أجهزة «الريموت كونترول» فى البيوت مؤشراتها من قراءة النتائج التى ترسم نصف صورة الحياة البرلمانية المقبلة إلى تتبع مساجلات انتهاك الحياة الخاصة لفتاة من أحاد الناس بصورة بشعة.
ما هو عام وانتخابى تراجع بفداحة أمام ما هو خاص وإنسانى.
الأول، افتقد أية قضية تلهم ترقب النتائج وأية رهانات على المؤسسة التشريعية كأنه زواج على ورقة طلاق بحسب عنوان مسرحية شهيرة للكاتب الكبير الراحل «ألفريد فرج».
دواعى الفتور هى ذات أسباب العزوف عن صناديق الاقتراع.
رغم ما انطوت عليه النتائج من ظواهر تستدعى التوقف أمامها وأسئلة تستحق النظر فى إجاباتها إلا أنها لم تنجح فى إضفاء أية إثارة على انتخابات باهتة.
أية قراءة عابرة فى المشهد المصرى تصل بسهولة إلى استنتاج لا يمكن تجنبه.
هناك ما يشبه اليأس من أى تغيير إيجابى وإحباط فى مستوى الأداء العام وتراجع لا يمكن إنكاره فى شعبية الرئيس.
آنين الشارع لا يجد من يسمعه والمال السياسى أفلت من كل عقال والتشهير الانتخابى توحش دون رادع من قانون.
فى أوضاع الاحباط تضاءلت أية إثارة محتملة يفترض أن تحركها صورة البرلمان الجديد.
لم يحدث احتفاء جدىّ بنجاح سيدات وأقباط على المقاعد الفردية لأول مرة منذ سنوات طويلة.
ولا جرى الالتفات لموازين القوى السياسية والكشف عن طبيعة الأحزاب التى تقدمت السباق فى مفاجأة قوضت هندسة قوانين الانتخابات لإقصاء الفكرة الحزبية كلها.
الاحتجاج الصامت غلب الضجيج فى قاعات فرز الأصوات.
من العزوف إلى الفتور هناك رسالة غضب تستعجل انفجارها فى مدى منظور.
والثانى، قضيته واضحة وأسباب التعاطف لا لبس فيها، فكل من غضب رأى فى الانتهاك المعلن اعتداء شخصيا عليه، على ابنته هو.
بالأرقام التى لا تكذب عشرات الملايين من المصريين أعلنوا على شبكة التواصل الاجتماعى نقمتهم البالغة على التشهير بسمعة الفتاة الجامعية الشابة «سمية» لصالح أحد المتحرشين الذى اعتدى عليها بالضرب المبرح فى أحد المولات.
تجاوز التشهير كل حد أخلاقى وقانونى.
أمعن فى احتقار كل قيمة إنسانية وجرى اغتيال الضحية بلا رحمة.
الغضبة الجماعية شهادة جديدة تعيد الثقة فى المجتمع المصرى.
عندما نتحدث عن عشرات الملايين على «هاشتاج» غاضب فإننا أمام ظاهرة تستدعى دراستها بعمق والبحث فيما وراءها من أسباب وتفاعلات داخل المجتمع المتهم بانهيار اخلاقياته.
اختلاف توجهات ومشارب وأجيال الغاضبين يعنى أن هناك شيئا عميقا جمع ما لا يجتمع فى الوجدان العام الذى جرت تنحيته فى الانتخابات النيابية.
وعندما تعلن الشركات الراعية للبرنامج المثير للغضب انسحابها الجماعى تحت ضغط التهديد بمقاطعة منتجاتها فإننا أمام رأى عام قوى يهدد فيستجاب له.
قوة الرأى العام تبدت عبر وسائل التواصل الاجتماعى.
كل شىء يتحرك بحرية فى الفضاء الإلكترونى.
أية أوهام عن إخفاء الحقيقة ومصادرة التفاعلات أوهام محلقة فى فضاء العصور القديمة.
رغم كل شطط غير مقبول فى لغة الحوار الإلكترونى إلا أنه أحد تجليات غياب السياسة.
هو الوجه الآخر لانفلات إعلام يحسب نفسه على السلطة فيسىء إليها ويقوض سمعتها.
فى الأجواء الانتخابية تجلت ظاهرتان متناقضتان، كل منهما تؤشر على مصير غير الآخر.
أولاهما، التوغل فى التشهير والسب والقذف لتحطيم فرص المرشحين المنافسين فى كسب ثقة الناخبين.
الدعاية السوداء تجاوزت أية ممارسات سابقة، كأنها إنذار بدفع الأمور إلى النهايات.
سقط نظام «حسنى مبارك» عندما استخف بمعارضيه وأطلق ــ على نحو محدود فى صحيفة محدودة التوزيع ــ العنان للتشهير بهم.
وسقط نظام «محمد مرسى» عندما أوغل الإخوان فى الاستخفاف بمعارضيهم والدعوة إلى الزج بهم فى السجون.
لكل فعل رد فعل.
هذه قاعدة لا يمكن تجنب نتائجها.
بحسب معلومات مؤكدة كانت هناك صدمة فى الدائرة المحيطة بالرئيس من الانفلات الإعلامى الذى أصاب صديقا قديما مقربا مرشحا فى إحدى الدوائر الساخنة.
غير أن المشاعر الإنسانية لا تمنع المسئولية السياسية للرئاسة فى تفشى ظواهر الانفلات الإعلامى.
فى أصداء الصدمة قال أحد مقربيه بتأثر حقيقى: «الهدف أن يكون السيسى وحيدا».
وثانيتهما، ارتفاع نبرة النقد فى أغلب البرامج السياسية لأداء السلطة التنفيذية، والنقد غير التشهير.
المؤشر إيجابى على احتمال تحسن الأداء السياسى الإعلامى وتوسيع المجال العام على مدى منظور لكل فكرة ورأى واجتهاد دون قوائم سوداء أو أسماء محجوبة.
لن يكون الأمر سهلا لكنه ممكن.
بافتراض أن البرلمان الجديد يضم عددا معقولا من النواب الجادين، بغض النظر عن توجهاتهم السياسية، فإن هناك فرصة لاستجوابات ومساءلات للسلطة التنفيذية تحت قبة البرلمان تنتقل تفاعلاتها إلى الشاشات والصحف.
كالعادة دائما الأحرار يصنعون الحرية.
تجفيف المجال العام وتضييق الحياة السياسية ممكن بقوة السلطة لكنه يلغى أية شراكة محتملة تحتاجها مصر للخروج من أزمتها الخانقة.
فى إغلاق القنوات السياسية أزمة مؤجلة.
وفى اليأس من أية شراكة سياسية دعوة عاجلة للتمرد على ما لا يمكن أن يستمر من سياسات ترجح عودة الماضى.
الكلام المقموع يسرى فى شرايين المجتمع، يقوض شرعية البرلمانات وينال من الرئاسات ويشكك فى المستقبل.
بحسب القاعدة الإعلامية أنت لا تقنع إلا بما هو مقنع.
لا شىء يقنع الآن أننا على الطريق الصحيح.
هناك أزمة مستحكمة فى الرؤية والتصورات والخطاب السياسى.
لا خطاب سياسيا فى الحكم ولا لدى القوى السياسية.
لا يوجد نظام حكم أعلن عن خياراته ورجاله ولا توجد معارضة تعلن تصوراتها للمستقبل.
الوضع كله سائل لكن الحقائق الصلبة سوف تنزل تحت قبة البرلمان.
أخطر احتمال ممكن تحول البرلمان الجديد إلى سيرك قومى ينزع عن مؤسسات الدولة احترامها.
العبء السياسى سوف يتحمله الرئيس وحده.
الإفراط فى الموالاة عبء عليه.
سوء الأداء البرلمانى عبء آخر.
هذه مشكلة مستعصية تعترضه بقسوة بعد اكتمال التشكيل البرلمانى عنوانها الإدارة السياسية.
إذا لم تكن هناك رؤية معلنة واضحة وصريحة فإن الفوضى سوف تكون ضاربة.
وإذا لم تكن هناك شراكة مع القوى السياسية داخل البرلمان وخارجه فى تحمل الأعباء والمسئوليات فإن الوضع سوف يكون مأساويا فى بلد لا يحتمل إخفاقا جديدا.
إذا أمعن البرلمان فى الاستخفاف بقضية العدل الاجتماعى فلن يكمل مدته تحت ضغط غضبات شعبية جامحة.
كما حل برلمانان سابقان على التوالى سيلقى المصير نفسه.
الأفضل أن تستقر مؤسسات الدولة لفتراتها الدستورية غير أن الأمور فى مصر لا تحكمها أية قواعد.
فى غياب القواعد بهتت الانتخابات البرلمانية بغياب السياسة فيها، وانتهكت الحياة الخاصة من إعلام فقد صلته بأية قيمة إنسانية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف