الأخبار
فاطمة قنديل
«حادثة شرف»
ما الذي كان يمكن أن يفعله يوسف إدريس حين يري أن مالم يتصور حدوثه في قرية، واختار له «عزبة» قد حدث في المدينة؟ بل في أقصي تطور للمدينة، حلم به في عصره

«ولو أن هذا حدث في قرية لحاول الأهل أن يستروا علي ابنتهم... ولكن الأمر يحدث في عزبة، الكل يعرف كل شئ عن الكل ولاداعي للإخفاء. وهكذا أصبح هم العزبة من صغيرها لكبيرها أن تعرف إن كانت فاطمة قد جري لها مالابد أن كان سيجري لها». تبدو هذه العبارات ليوسف إدريس، في قصته القصيرة «حادثة شرف» تلخيصا وافيا لما انشغلت به الفضائيات ومواقع التواصل لأيام، ولأنني لاأريد أن أعيد وأزيد في واقعة التحرش والابتزاز التي تم عرضها علي الفضائيات، والتي اشتهرت بقضية «فتاة المول»، أذكر القراء أن يوسف إدريس كتب هذه القصة القصيرة، في ستينيات «القرن الماضي»! ثم تحولت إلي فيلم في عام 1971 (أخرجه شفيق شاميه) حين كانت القاهرة «مدينة» و»الإسكندرية» عروس المتوسط، و»المنيا» باريس الصعيد! أكاد أتخيل صاحب مقالات» فقر الفكر وفكر الفقر»، المهموم بالقضايا الحقيقية لمجتمعه، يضرب رأسه في الجدران، وهو يشاهد ماآلت إليه الفضائيات والمواقع والتعليقات علي الحادثة، ما الذي كان يمكن أن يفعله يوسف إدريس حين يري أن مالم يتصور حدوثه في قرية، واختار له «عزبة» قد حدث في المدينة؟ بل في أقصي تطور للمدينة، حلم به في عصره؛ أعني استخدامها وسائل الاتصالات الحديثة، تفتحها علي العالم بأسره، وقد أغلقتها علي نفسها لتتقلص من قرية إلي «عزبة»؟! بإمكان من لم يقرأ القصة ولم يشاهد الفيلم، ويريد أن يفهم فداحة الأثر النفسي لالضحية التحرش فقط، وإنما لضحايا الفضائح من النساء، أن يعود للقصة وللفيلم علي الإنترنت، وسيجدهما خلف ركام التعليقات، في نهاية النفق المظلم، الذي عليه أن يخوضه في أوحال «قاع المدينة»، أو ينتظر،كما يقول يوسف إدريس:» وماكاد العشاء يؤذن حتي كان الهدوء الهائل الخالد قد خيم علي العزبة من جديد، وحتي كل مايتعلق بماحدث قد نوقش وأعيد نقاشه حتي فرغت الجعاب وثقلت الرؤوس..» ماوراء الحدث من دلالات شئ مخيف، علي الأقل بالنسبة لي، لافيما تم من تناول إعلامي فحسب، وإنما فيما قرأته وسمعته من تعليقات كثير من القراء والمشاهدين، فالقضية واقعة تحرش، والضحية تعرضت للانتهاك، مرة بالتحرش،ومرة بالضرب، وثالثة بفضيحة نشر صور شخصية عبر الفضائيات، لتغذي خيالات المرضي، المهووسين جنسيا، وتحول الفضيحة الشخصية إلي فضيحة مجتمع بأسره، ترك التحرش جانبا ليتفرج علي صورالفتاة، ويقيّم «استحقاقها» للتحرش من عدمه! ليست هذه الواقعة جديدة، ولاالجدل واللغط حول تحويل ضحايا التحرش إلي متهمات، لكن الذي سيظل «جديدا» دائما هو مدي الانهيار الذي نصل إليه كلما استخدمنا وسائل الاتصال الحديثة، لالأنها مضرة في حد ذاتها، بل لأننا نستخدمها بمنطق أهل «العزبة»: «الكل يعرف كل شئ عن الكل ولاداعي للإخفاء»، يحتشد وراء دعم هذا الاستخدام إعلاميون، وجمهور عريض، يتلقف الفضيحة وراء الأخري، سواء أكانت واقعة تحرش أو تسريبا صوتيا..إلخ. في العلوم الاجتماعية يطلقون علي مثل هذه الظواهر مصطلح:»ترييف المدينة»، ويعنون به فرض منظومة القيم الريفية المغلقة،علي المدن المنفتحة بوسائل الاتصال علي العالم، لتصبح المدن «عزب»، متجاورة، كقصاصات «الكليم اليدوي»،وبحيث تتعرض قيم المدن كالخصوصية، مثلا، لغزو قيم الريف المحافظة،بماتشتمل عليه من سلطة ذكورية، يحتل فيها الأب موضع التقديس، ويحتل عبرها رؤساء الجمهوريات موضع «الأب لكل المصريين»!وتصبح «أخلاق القرية» بديلا لقيم المواطنة والمساواة والديمقراطية..إلخ.تبدو المدينة، بمؤسساتها وشوارعها ومبانيها وفضائياتها ومواقعها و»مولاتها»،صورة زائفة للمدن، استنساخ «لعزبة»، ترن في خوائها الفضائح كل صباح، ثم تُنسي، وتجر الفضائح فضائح أخري كالإعلان المنتشر بعد الفضيحة علي المواقع «شاهد: 15 صورة لبنات الفنانين بالمايوه»! ولأننا في «عزبة»، لم يكن غريبا أبدا أن يتأملني الصيدلي، في الليلة نفسها، متحرجا أن يعطيني حقنة، أعالج بها «الغثيان» بعد المشاهدة، قائلا: «معلش ياماما، تعالي الصبح، يكونوا الدكاترة البنات هنا»!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف