الأخبار
محمد فهمى
الانضباط .. يا حضرات !
في هذه اللحظة.. اتجهت السيدة جيهان السادات نحو مساعدتها التي تتحدث الألمانية وسألتها عما يجري فيما يشبه الأزمة.. وعرفت تفاصيل الحوار.. فبادرت بمخاطبة قائد الطائرة باللغة الإنجليزية.. وقالت له انه سيشغل مقعد ابنتها جيهان

بعد أسابيع من اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات وصلت إلي هامبورج السيدة جيهان السادات.. وابنتها جيهان ومساعدتها "مدام صادق".. لتقديم الشكر للمستشار الألماني "السابق وقتها" هيلموت شميت.. علي الموقف الذي اتخذته الحكومة الألمانية بعد حادث الاغتيال.. في ظل حكم المستشار شميت.. وتقديم الشكر الخاص لشخص المستشار علي برقية العزاء التي كانت قد وصلتها منه.. علاوة علي الكلمة التي قطع التليفزيون الألماني ارساله لإذاعتها.. والتي قال فيها «إن العالم بعد اغتيال السادات أصبح أكثر فقرا»!
وبعد هذه الزيارة لهيلموت شميت وزوجته «لوكا».. بمنزله في هامبورج.. استقلت الطائرة الألمانية في طريقها إلي بون لزيارة صديقتها الدكتورة عائشة راتب.. سفيرة مصر في العاصمة الألمانية القديمة «بون».
جلست السيدة جيهان وابنتها ومساعدتها فوق ثلاثة مقاعد بالدرجة الأولي.. وفجأة صعد المستشار شميت إلي الطائرة متجها إلي مقعده بالدرجة السياحية.. ووقفت السيدة جيهان لتحيته.. مشيرة لابنتها بالانتقال لمقعد آخر بجانب مدام صادق.. كي يشغل المستشار شميت المقعد بجانبها.. وجلس شميت بالفعل.. ودار بينهما حديث ودي.. استمر بضع دقائق.. إلي ان جاء مضيف الطائرة يطلب من المستشار شميت الانتقال لمقعده بالدرجة السياحية.. وهز شميت رأسه بالموافقة دون أن تتبين السيدة جيهان السادات.. مغزي الحوار الذي جري باللغة الألمانية..
بعد دقائق.. وصل المضيف مرة أخري.. يكرر الحوار.. إلي ان أطل قائد الطائرة بنفسه علي المشهد.. وقال للمستشار شميت:
لقد حان وقت الاقلاع.. ولا أستطيع الاقلاع بالطائرة قبل ان تنتقل لمقعدك بالدرجة السياحية!
وفي هذه اللحظة.. اتجهت السيدة جيهان السادات نحو مساعدتها التي تتحدث الألمانية وسألتها عما يجري فيما يشبه الأزمة.. وعرفت تفاصيل الحوار.. فبادرت بمخاطبة قائد الطائرة باللغة الإنجليزية.. وقالت له انه سيشغل مقعد ابنتها جيهان.. وان جيهان سوف تشغل مقعده بالدرجة السياحية.. وطلبت من ابنتها الاتجاه نحو مقعد شميت.. وهمت الابنة بالاستعداد لتبادل المقاعد.. إلا ان قائد الطائرة رفض هذا الحل.. قائلا في حسم: ان السيد شميت مكانه بالدرجة السياحية.. وعليه ان ينتقل لمقعده فورا.. حتي يتسني لنا الإقلاع!
وهذا هو ما حدث بالفعل.. وقام المستشار شميت وصافح السيدة جيهان السادات.. شاكراً لها موقفها.. واتجه نحو مقعده بالدرجة السياحية.. وأغلقت الأبواب وانطلقت الطائرة.. إلي ان هبطت بمطار مدينة «كولونيا».. وهو أقرب المطارات إلي العاصمة القديمة بون.. حيث كنت في انتظارها بصحبة السيدة السفيرة الدكتورة عائشة راتب.. عليها رحمة الله.
وروت لنا السيدة جيهان السادات ما جري خلال الرحلة.. بصوت الانزعاج.. وكان ذلك منذ أكثر من 30 سنة.. وشاركناها الانزعاج المشوب بالدهشة.. لأن الحادث وقع لواحد من أهم ساسة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وهو رئيس لأقوي الأحزاب السياسية.. وهو الحزب الاشتراكي الديمقراطي.. وهو قبل ذلك كله.. هيلموت شميت.. صاحب الكلمة المسموعة علي مستوي العالم.
الآن.. أسوق هذه الواقعة.. التي اعتبرها تجسيدا لثقافة الانضباط في المجتمعات الراقية.. التي أفرزت التقدم في كل مجالات الاقتصاد والسياسة.. والإبداع من باب الحديث عن الانضباط.. وثقافة الانضباط.. والمساواة المطلقة بين البشر الذين يتم التعامل معهم كأسنان المشط.. لا فرق بين وزير وخفير.. ولا بين سيدة تبيع الخبز في الحارة.. وأخري.. تقدم في التليفزيون برامج الإثارة.. فالكل سواسية.. والانضباط نعمة.. واما بنعمة ربك فحدث.
والانضباط في كل الأحوال يبدأ من تحت.. من دور الحضانة.. ومن المدارس الابتدائية.. حيث يتلقي الطفل الدرس الأول في السلوكيات الصحيحة.. والنهج السديد في احترام القوانين واللوائح المنظمة للحياة في المجتمع.. من خلال سلسلة طويلة من الافلام الكرتونية والرسوم المتحركة التي تتناول اشارات المرور والطريقة الصحيحة لعبور الطرق.. تصاحبها الأغاني التي يحفظها الطفل عن ظهر قلب.. قبل ان يحفظ جدول الضرب.
ولا يوجد في ألمانيا مواطن واحد لا يحفظ أغنية إشارة المرور التي تقول كلماتها البسيطة:
حمراء.. أقف!.. صفراء.. استعد!.. خضراء.. أعبر!
وهي واحدة من عشرات الأغاني التي يحفظها الطفل.. ويظل يرددها من سن الطفولة.. إلي ما بعد بلوغ سن الكهولة بين أحفاده.. وأبناء الأحفاد.. لأن التعليم في الصغر.. كما يقولون.. كالنقش علي الحجر!
ومن خلال هذه البرامج التعليمية التي تقدم للأطفال استطاعت الدول الراقية القضاء علي الظواهر السلبية التي تطل علي القيم أولا بأول وقبل ان تستفحل وتتحول إلي عادات وتقاليد راسخة يتعذر اقتلاع جذورها.. أو تفادي آثارها السلبية علي كل مجالات التقدم ومواكبة الأمن.
وفي كل الأحوال فإن التجارب أثبتت ان الاستثمار في تنمية رأس المال البشري.. لا يؤدي فقط إلي ضبط ايقاع السلوكيات السلبية في المجتمع فحسب.. وإنما هو يشكل الخطوة الأولي في طريق التنمية الشاملة في كل مجالات الحياة ابتداء من المال والاقتصاد.. وحتي التصنيع والتصدير.. وبالتالي فإنه ليس في التصور تحقيق التنمية الشاملة في أي مجتمع الا بتنمية رأس المال البشري.
وإذا اخذنا في الاعتبار ان لدينا وفرة في رأس المال البشري.. بيد اننا لم نحسن استثماره لعقود طويلة.. وبالتالي تحول رأس المال البشري إلي عبء.. وإلي خلل يعرقل التقدم.. ولا يخدم مسيرة الإصلاح.. وتراجع في الوقت نفسه الدور الذي كانت تلعبه المدارس.. في التربية الوطنية. وتعاظم دور عصابات الدروس الخصوصية الذي أدي لانهيار التعليم.. وإلي نشر الفوضي والبلطجة في ربوع البلاد.. وإلي الخلل الذي نراقبه كل يوم وتجسد في أعمال التخريب التي شهدتها جامعاتنا في السنوات الأخيرة.. وإلي المظاهرات التي قامت بها مجموعات من طلبة الثانوية مطالبة بإقالة وزير التربية والتعليم.. لأنه أصدر قرارا يقضي بإعادة مدارسنا إلي دورها في التربية قبل التعليم. واضطر.. اثر المظاهرات والشعارات المتدنية إلي تجميده لحين ميسرة.
السخيف في الموضوع أننا نمتلك ثروة بشرية هائلة. لم نحسن - للأسف الشديد - استثمارها.. لعقود طويلة.. وآن الأوان.. بعد ثورتين شعبيتين ان نعيد النظر في الميزانيات الهائلة المخصصة لدعم الجامعات.. ونحولها لدعم دور الحضانة والمدارس الابتدائية.. لنعيد الانضباط الاجتماعي إلي الطريق الصحيح.
نحن في حاجة لاستثمار رأسمالنا البشري بصورة أفضل لإيجاد مجتمع جديد يتمتع بالانضباط والاخلاق الفاضلة التي نباهي بها الأمم الراقية.. يوم القيامة!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف