مقاعد البرلمان المقبل ستتوزع مناصفة تقريباً بين المستقلين وممثلى الأحزاب. هذا هو ما أسفرت عنه نتائج الجولة الأولى من الانتخابات، ففيما حصد المرشحون المستقلون 145 مقعداً من مقاعد المجلس، فاز مرشحو الأحزاب بما مجموعه 128 مقعداً، فيما ما زال مصير 13 مقعداً معلقاً انتظاراً لإعادة الانتخابات فيها.
الملاحظة المهمة هى أن الأحزاب ومرشحيها تفوقوا فى المنافسة على المقاعد الفردية على المرشحين المستقلين. ففيما حصل مرشحو الأحزاب على 109 من المقاعد التى جرى التنافس عليها فى جولة الإعادة، فاز المرشحون المستقلون بما مجموعه 104 مقاعد فقط، مخيبين بذلك التوقعات التى أعطت للمرشحين المستقلين الغلبة على مرشحى الأحزاب فى المنافسة على المقاعد الفردية. فإذا أضفنا إلى هذا الأربعة مقاعد التى تم حسم مصيرها منذ الجولة الأولى للانتخابات لوصل عدد المقاعد الحزبية بين المقاعد الفردية إلى 110 مقاعد فى مقابل 107 مقاعد للنواب المستقلين.
المفارقة هى أن الغلبة العددية التى يتمتع بها النواب المستقلون بعد نهاية المرحلة الأولى من الانتخابات إنما حصلوا عليها من المقاعد التى تم تخصيصها لهم على قائمة «فى حب مصر»، ففيما خصصت القائمة الفائزة 41 مقعداً للمرشحين المستقلين، فإنها لم تخصص سوى 19 مقعداً لمرشحين ممثلين لستة أحزاب. ووجه المفارقة هنا أنه فيما تؤدى الانتخابات بالقوائم فى أغلب بلاد الدنيا إلى زيادة فرصة المرشحين الحزبيين، فإنها فى انتخاباتنا الحالية أدت إلى نتيجة معاكسة تماماً.
الأداء المميز للأحزاب بدأ منذ الجولة الأولى فى انتخابات المرحلة الأولى، فقد بلغ إجمالى عدد المرشحين على المقاعد الفردية فى هذه المرحلة 2366 مرشحاً، بعد استبعاد مرشحى الدوائر الأربع التى تم إلغاء الانتخابات فيها، كان من بينهم 1546 من المرشحين المستقلين فى مقابل 820 مرشحاً حزبياً. أما جولة الإعادة فلم يصل لها سوى 215 مرشحاً مستقلاً فى مقابل 203 من مرشحى الأحزاب، لتأتى النتيجة النهائية لجولة الإعادة مؤكدة تفوق المرشحين الحزبيين بعد أن فازوا بما نسبته 51% من إجمالى المقاعد المتنافس عليها.
لم تكن هذه النتيجة متوقعة قبل إجراء الانتخابات، الأداء غير المتوقع للأحزاب ومرشحيها يشير إلى حدوث تغيرات مهمة فى نظامنا الحزبى بالمخالفة للتوقعات السابقة. فالمرشحون الأكثر حظاً أظهروا استعداداً للانتظام فى إطار حزب أو آخر رغم القيود التى يفرضها الدستور الراهن على مرشحى الأحزاب حال دخولهم إلى مجلس النواب. فى نفس الوقت فإن الأحزاب الناشئة تبدو وقد لعبت دوراً مهماً فى زيادة فرص مرشحيها فى الفوز عبر أشكال مختلفة من الدعم، وهو أمر غير معهود فى الممارسة الحزبية لدينا بعد عقود عجزت فيها الأحزاب عن تقديم أى دعم لمرشحيها، اللهم إلا الدعم غير القانونى الذى قدمه الحزب الوطنى لمرشحيه.
لا يوجد أحزاب أغلبية فى هذا البرلمان، فحزب المصريين الأحرار الأكثر تمثيلاً فى مجلس النواب لا يستحوذ سوى على 15% من المقاعد التى تم حسم أمرها. ومع هذا فإنه فى إطار هذا التفتت الحزبى الواضح فإن أربعة أحزاب، هى «المصريين الأحرار ومستقبل وطن والوفد والشعب الجمهورى»، تبدو بارزة والأرجح أنها سوف تلعب دوراً مؤثراً فى مجلس النواب المقبل بعد أن فازت بما نسبته 34% من المقاعد التى تم التنافس عليها فى مرحلة الانتخابات الأولى. ومع أنه من الصعب تصور الأحزاب الأربعة وقد نسقت مواقفها بحيث تتصرف ككتلة واحدة داخل مجلس النواب، إلا أن قدراً كبيراً من التنسيق بينها ليس أمراً مستبعداً خاصة أنها جميعاً تنتمى لفئة أحزاب يمين الوسط التى تتفق فى كثير من التوجهات المتعلقة بسياسات الإصلاح الاقتصادى والإدارى، وإن كانت تختلف فيما بينها فيما يخص قضايا الحريات، ففيما يبدو حزب المصريين الأحرار مهتماً بالحريات الاجتماعية، يبدو حزب الوفد أكثر اهتماماً بقضايا الحريات السياسية، أما حزبا مستقبل وطن والشعب الجمهورى فما زال موقفهما تجاه قضايا الحريات يشوبه الغموض.
وفى مقابل أحزاب يمين الوسط صاحبة الغلبة فى مجلس النواب فهناك تمثيل محدود لتيار يسار الوسط ممثلاً فى الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى بثلاثة مقاعد، والحزب الناصرى بمقعد واحد، فيما غاب اليسار التقليدى والصريح حتى الآن عن هذا البرلمان بعد أن اختارت الأحزاب والتجمعات اليسارية الأكثر أهمية مقاطعة الانتخابات، وإن كان بعض أعضائها قد خاض الانتخابات مستقلاً.
حزب «الحركة الوطنية المصرية»، الذى ضم العدد الأكبر من أعضاء الحزب الوطنى الديمقراطى المنحل، خرج من السباق الانتخابى فائزاً بمقعد واحد فقط، فيما يمكن اعتباره النهاية الفعلية لهذا الحزب. اختفاء حزب الحركة الوطنية عن قائمة الأحزاب التى ساهمت بمرشحيها فى تكوين قائمة «فى حب مصر» القريبة من نخبة الحكم، يشير إلى حرص أهل الحكم على تمييز أنفسهم عن الحزب الوطنى. الملفات القضائية التى ما زالت مفتوحة بحق رئيس الحزب أحمد شفيق، والتى تجبره على البقاء خارج البلاد، تشير إلى رفض نخبة الحكم إعادة تشكيل الحزب الوطنى ولو تحت اسم مختلف. النظام السياسى الراهن يتسع لأعضاء الحزب الوطنى ولكنه لا يرحب بالحزب الوطنى كياناً منظماً حتى لو بدل اسمه أو أتى ببعض الوجوه الجديدة. ما يسرى على حزب الحركة الوطنية يسرى على حزب «مصر بلدى» الذى ضم بين صفوفه عدداً كبيراً من أعضاء الحزب الوطنى المنحل، بالإضافة إلى آخرين ممن ارتبطوا بنظام مبارك حتى لو لم يكونوا أعضاء فى حزبه الوطنى. الحكم الراهن يقاوم إعادة تنظيم وتجمع القوى الأساسية الضاربة لنظام مبارك، وإن كان لا يمانع فى دمج أفراده فى مؤسسات النظام السياسى الجديد.
النظام الحزبى الآخذ فى التشكل يعد بنقلة مهمة فى حياتنا السياسية ما لم تتآمر عليه أطراف تكره كل أشكال التنظيم السياسى الطوعى.