حين أمسكت بالقلم لأكتب عن طه حسين في ذكراه ـ توفي في 28 أكتوبر 1973 ـ تداعت إلي ذهني القصيدة البديعة التي ألقاها الشاعر نزار قباني في حفل تأبين الأديب الكبير بمناسبة ليلة الأربعين.. كنت في السنة الأولي بكلية الإعلام جامعة القاهرة وكانت مصر لاتزال تعيش أجواء نصر أكتوبر العظيم.. وكانت قصيدة نزار حدثاً هائلاً.. فقد كان للشعر دولة.. وكان للكلمة البليغة سعرها.. فما بالك إذا كان الشعر في طه حسين صاحب السيرة الملهمة؟!
حفظت القصيدة ـ مثل كثيرين غيري ـ عن ظهر قلب رغم طولها.. وعندما حاولت أن أبدأ مقال اليوم ببعض أبياتها أعيتني الحيرة.. فالقصيدة أكثر من رائعة.. وفيها تتجلي موهبة نزار الفذة وقدراته الفنية.. لذلك اخترت أن أنشر ما تسمح به المساحة من الأبيات لتتذوق الأجيال الجديدة حلاوة الشعر.. وتتعرف علي هذا الفن الجميل الذي ينفر الناس منه اليوم ويوشك أن يندثر علي يد الحداثيين وأنصار قصيدة النثر وأنصاف الموهوبين.. ولتتعرف هذه الأجيال أيضاً علي قيمة طه حسين الذي يخاطبه نزار كثيراً:
ضوء عينيك أم هما نجمتان
كلهم لا يري.. وأنت تراني
ضوء عينيك أم حوار المرايا
أم هما طائران يحترقان
هل عيون الأديب نهر لهيب
أم عيون الأديب نهر أغاني
آه ياسيدي الذي جعل الليل
نهاراً.. والأرض كالمهرجان
إرم نظارتيك كي أتملي
كيف تبكي شواطئ المرجان
ارم نظارتيك ما أنت أعمي
إنما نحن جوقة العميان
أيها الفارس الذي اقتحم الشمس
وألقي رداءه الأرجواني
لم يزل ما كتبته يسكر الكون
ويجري كالشهد تحت لساني
وحدك المبصر الذي كشف النفس
وأسري في عتمة الوجدان
أيها الأزهري.. يا سارق النار
وكاسراً حدود الثواني
عد إلينا فإن عصرك عصر
ذهبي ونحن عصر ثاني
سقط الفكر في النفاق السياسي
وصار الأديب كالبهلوان
يتعاطي التبخير.. يحترف الرقص
ويدعو بالنصر للسلطان
عد إلينا فإن ما يكتب اليوم
صغير الرؤي.. صغير المعاني
عد إلينا يا سيدي.. عد إلينا
وانتشلنا من قبضة الطوفان
أنت أرضعتنا حليب التحدي
فطحنا النجوم بالأسنان
ورفضنا كل السلاطين في الأرض
رفضنا عبادة الأوثان
أيها الغاضب الكبير تأمل
كيف صار الكُتاَّبُ كالخرفان
قنعوا بالحياة شمساً ومرعي
واطمأنوا للماء والغدران
إن أقسي الأشياء ظلماً
قلم في يد الجبان.. الجبان