ان يبقي بشار الأسد أو أن يرحل، تلك ليست القضية، فلم نعد في ترف البحث عن نظام سياسي أفضل في سوريا، ولا في صدد ثورة شعبية سورية تطلب الكرامة والعدالة والحرية، فقد جري إعدام الثورة مبكرا برصاص حرب طائفية كافرة، استدعت إليها جماعات مسلحة وحشية من أربع جهات الدنيا، وجري «تدويل» المصير السوري، وهو ما يجعل الأولويات تختلف، والأحلام تتواضع إلي مجرد البحث عن فرصة لبقاء سوريا التي نعرفها، وإنهاء فوضي تمزيقها إلي كانتونات طائفية، تظل تتناسل بالحرب إلي ما لانهاية.
وقد لا يكون من مفر في سوريا سوي تجرع السم، فلم يعد السوريون يملكون من أمرهم شيئا، وفقدت القضية السورية «سوريتها»، ثم فقدت «عروبيتها» بعجز العرب، وبخذلان للشعب السوري الذي صار نصفه نازحا في الداخل ولاجئا إلي الخارج، وبتورط الدول الخليجية بالذات في عملية تحطيم سوريا، وإنفاقها لعشرات المليارات علي تسليح وتسمين جماعات تكفيرية «سنية»، وبدعوي مواجهة إيران وجماعاتها «الشيعية» المقاتلة، وهو ما خلق بيئة دمار بلا حدود، جعلت ديكتاتورية بشار الأسد تبدو أخف وطأة من وحشية «داعش» و»النصرة» وأخواتها، فهؤلاء لا يقيمون وزنا للدولة السورية، ولا تعنيهم وحدة سوريا من عدمها، ولا في اعتبارهم حفظ «الآدمية»، ناهيك عن الحرية والديمقراطية التي يكفرونها ويكفرون بها، فكل ما يعدون به هو ديكتاتورية قطع رءوس البشر، وتحويل سوريا إلي كومة أنقاض محترقة إلي يوم يبعثون.
وبعد تحول سوريا إلي لعبة أمم، وإلي ملاعب قتل مفتوحة، لا يمكن وقف إطلاق النار فيها حتي بالتدخل الدولي، وعلي طريقة مؤتمرات «جنيف» و»فيينا» و»موسكو» وغيرها، لا تبدو أطرافها مهمومة بوحدة سوريا، بقدر ما تسعي إلي تقسيم الكعكة السورية، وحفظ المصالح في المنطقة، وهو ما يفسر قوة الدور الروسي، وصرامته في حماية مصالحه العسكرية والاستراتيجية في مدن الساحل السوري، بينما لا تريد أمريكا سوي ترك النار تأكل بعضها، ومواصلة مهمة تحويل سوريا إلي رماد وخرائب وأطلال، وفي حرب لا تكلفها دولارا ولا سنتا واحدا، إذ تتكفل الدول العربية الخليجية بتوفير الأموال المطلوبة، وإنفاقها في سفه مخبول علي جماعات القتل، وبدعوي أنها تريد الخلاص من بشار الأسد، وحتي لو كان الثمن هو ذهاب سوريا إلي الجحيم.
وقد لا يفيد ألف مؤتمر علي طريقة لقاءات «فيينا» الأخيرة، إلا إذا كانت الصورة الكلية واضحة، فما من دائرة أطراف مكتملة صالحة للتفاوض في سوريا، أو قابلة للإرغام من جانب روسيا أو أمريكا، فثمة طرف ظاهر، هو جماعة بشار الأسد الحاكمة لاتزال في دمشق، والتي تقلصت خرائط سيطرتها الواقعية إلي أقل من ربع مساحة سوريا، تضم غالبية المدن الكبري، فيما تسيطر أطراف مختلطة علي باقي المساحة، أظهرها «داعش»، التي لاتزال تحتل قرابة نصف المساحة السورية، وكذا «الأكراد» الذين يناهضون «داعش»، ويسيطرون علي مدن صغري في الشمال السوري، وهدفهم واضح في إقامة كيان شبه مستقل، إضافة لعشرات الفئات المسلحة الأخري في الربع الباقي من خرائط الدم، أقواها «جبهة النصرة» المرتبطة عضويا بتنظيم القاعدة، وهذه خرائط تدمير لا خرائط تفاوض، فلا يملك ما يسمي «الإئتلاف السوري» ـ المقيم في اسطنبول ـ حق التفاوض باسم جماعة مسلحة مؤثرة علي الأرض، وما يسمي «الجيش السوري الحر» مجرد قبضة هواء، فيما لا تملك «هيئة التنسيق الوطنية»، وهي الكيان الرئيسي لأحزاب المعارضة التاريخية في سوريا، لا تملك «هيئة التنسيق» صلات يعتد بها مع أي جماعة مسلحة، فقد رفضت من البداية كل اتجاه لعسكرة الثورة في سوريا، ورفضت التدخل الأجنبي من أي جهة، وظلت جماعة معارضة سلمية لديها تصورات صحيحة عن الحل الديمقراطي الوطني لأزمة سوريا، لكنها لا تعد طرفا في أي إتفاق محتمل لوقف إطلاق النار، ومعني ما قلناه واضح صريح، فهب أن «لقاء فيينا» توصل إلي سيناريو للحل السوري، ودعا ـ كما حدث بالفعل ـ لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية تحت إشراف الأمم المتحدة، فلا بد قبلها من ضمان وقف إطلاق النار أولا، وهذا يعني التفاوض مع «داعش» و»النصرة» الإرهابيتين، وهو تفاوض غير ممكن لاعقلا ولا منطقا، وترفضه كافة الأطراف الدولية والإقليمية، بينما الطرف الوحيد القابل للتفاوض علي وقف إطلاق النار هو ما تبقي من النظام السوري والجماعات الداعمة لبقائه.
وخرائط السلاح المعقدة في سوريا، هي التي تدعم عمليا فرص بقاء نظام بشار الأسد كخيار لا مفر منه، والاعتماد عليه ـ مع الوحدات الكردية المسلحة ـ لاستعادة الأراضي التي تحتلها «داعش» و»النصرة» وأخواتها من جماعات السلفيين والإخوان، وفي سياق سياسي لا يؤدي إلي إفناء النظام السوري الحالي فورا، ولا إلي تحطيم ما تبقي منظما منضبطا من الجيش السوري، وهو ما دفع «بيان فيينا» إلي التأكيد علي الاحتفاظ بالجيش ومؤسسات الدولة، وما من ترجمة عملية ممكنة للهدف، سوي بتوسيع نطاق الهيئات السياسية والعسكرية الحالية، وتكوين سلطة انتقالية، تضم أطرافا من «الائتلاف السوري» و»هيئة التنسيق» إلي جوار السلطة القائمة، ومع إعادة ما تيسر من المنشقين إلي صفوف الجيش، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية بما ينزع عنها الطابع الطائفي، وهذه فرصة الحد الأدني التي قد تكون متاحة في سوريا اليوم، والتي لا تتحمس لها أمريكا بقدر ما تفعل روسيا، وتبدو مصر عموما أقرب إلي المعني والموقف الروسي، لكن السياسة المصرية تبقي حذرة واقفة علي حافة المبادئ العامة، ولا تتقدم بما فيه الكفاية إلي دور نشيط مطلوب سياسيا ودبلوماسيا، وهو ما قد يصح تلافيه الآن، ومع تحمل ضرائب خلاف ظاهر مع دولة خليجية كبري، فسوريا تستحق أن تعطيها مصر الأولوية، وأن تبذل ما في وسعها لحفظ الحد الممكن من الكيان السوري، سواء ببقاء الأسد شخصيا أو بدونه.