الوطن
حسن ابو طالب
كارثة الإعلام والمسئولية الغائبة
للمرة الرابعة تخرج كلمات عتاب صريحة من الرئيس السيسى تصل إلى حد الانزعاج، وتصف وضع الإعلام بأنه كارثة. تماماً مثلما تفعل عناوين صحف وبرامج تليفزيونية عند وصف مشكلة أو حدث جلل أحياناً لجذب القارئ والمشاهد، ولغرض المبالغة فى وصف الأمر دون الأخذ فى الاعتبار مدى ملاءمة التعبير مع واقع الحدث نفسه، فالمهم هو تحقيق أعلى مشاهدة للبرنامج أو أعلى بيع للإصدار. تعبير الكارثة حسبما تقره المعاجم اللغوية، يعنى الحادث المهيب والمصيبة العظيمة والخراب الهائل، وهى الشدة والنازلة التى تنزل بجموع الناس والآفة والنكبة. وأياً كان المعنى، فنحن أمام وضع غير مرغوب، وإن حدث فإنه يتطلب حكمة فى التعامل لاحتواء الآثار السلبية من جانب وحكمة أكبر فى استخلاص الدروس ووضع الأطر التى تحول دون العودة مرة أخرى إلى مثل هذا الوضع الكارثى.

وليس هناك خلاف على أن الإعلام المصرى بكل أشكاله يمر بحالة انفلات غير مسبوقة، حيث تضيع فيه أبسط معايير المسئولية تجاه المجتمع وحقوق الغير. وجوهر المشكلة يتعلق بمدى الالتزام بالمعايير المهنية المتعارف عليها فى كل النظم تقريباً، وأهم ما فيها الدور الذى يرسمه الإعلامى أو الصحفى لنفسه فى التعامل مع حدث ما، ويرتبط بذلك الدور الذى تحدده القناة التليفزيونية أو الجريدة المطبوعة لنفسها فى الحياة العامة والتى يتم تقنينها فى وثيقة أو مدونة سلوك داخلية وكتيب يحدد أطر الكتابة، ويكون ملزماً لجميع من فى المؤسسة بعد التدريب المكثف عليه سواء للمحررين الُجدد أو حتى المحررين القدامى، وهى أساليب تعرفها النظم الإعلامية المحترمة ومعروفة للكافة، وتتكامل مثل هذه الوثائق الداخلية للمؤسسات الإعلامية، والتى يتم وصفها غالباً بأنها عملية ضبط ذاتى مُقنن، مع القانون ومجمل البيئة التشريعية التى تنظم عمل الإعلام بكل أشكاله ومساراته. وخلاصة الأمر أن القانون وحده لا يكفى مهما كان واضحاً أو رادعاً، فالمهم هو ما ينبع من داخل المؤسسة الإعلامية نفسها تجاه المجتمع ككل، وتجاه أفراده ومؤسساته وقيمه وهويته وطموحه المشروع فى التطور فى المجالات المختلفة.

والمؤكد أن الأداء الإعلامى والصحفى فى مصر يفتقر إلى أدوات الضبط الذاتى، ولا توجد جهود كافية سواء بمبادرات من كل مؤسسة إعلامية على حدة أو من خلال مجموعة من المؤسسات لوضع هذه الوثائق والالتزام بها عملياً. الأمر الذى يُحدث فراغاً قيمياً تتسلل منه كل الظواهر البغيضة والمناهضة لمتطلبات التماسك المجتمعى التى تحتاجها مصر بشدة فى مرحلتها الراهنة المُحاطة بالإرهاب والتدخلات الخارجية والضغوط الاقتصادية والتحديات فى احتياجات المواطنين وحقوقهم الأساسية التى لا تنازل عنها. وإن جاءت هذه المبادرات فغالباً ما تأتى متأخرة. وأشير هنا إلى قرار مجموعة من القنوات الفضائية المنضوية تحت إطار تنظيمى خاص بها بوقف التعامل مع شخصية عامة اشتهرت بالأقوال الحادة تجاه الجميع، وهى شخصية طالما ظهرت على هذه القنوات نفسها مراراً وتكراراً، وقالت ما قالت ضد عديدين، وربما قائل يقول إن الأفضل أن تأتى المبادرة متأخرة بدلاً من ألا تأتى أبداً. وأتصور أنه لو كانت لدينا أدوات الضبط الذاتى فى كل مؤسسة على حدة أولاً ما وُجدت أصلاً مشكلة الأقوال الحادة التى ابتلينا، نحن المشاهدين، بها كثيراً، وكنا نتعجب لماذا يُسمح بهذا والكل يدرك أنه يناهض الحد الأدنى من قيم المهنية الإعلامية الرصينة. وكثيراً ما كان الجواب إنه الجذب الإعلانى، وما ينطبق على هذه الحالة ينطبق أيضاً على حالات كثيرة من برامج وإعلاميين لم يكن يهمهم سوى البحث عن الإثارة أو اصطناعها اصطناعاً حتى ولو كانت على حساب أعراض الناس وسمعتهم، وحتى لو كانت على حساب قيم المجتمع ككل، فالمهم هو العائد الإعلانى الكبير والنسبة التى تدخل الجيوب، أما المسئولية تجاه المجتمع فليس لها وجود. وهنا تأتى مسئولية جزئية على المشاهدين أنفسهم والذين كانوا يعطون مثل هذه البرامج أهمية قصوى فى المتابعة والتفاعل، تماماً كما تأتى مسئولية جزئية أخرى على الشركات المُعلنة الراعية، فهى تبحث أيضاً عن المُشاهد لتصب فى أذنه وفى عينيه سلعها التى يجب أن تفعل المستحيل لكى يقتنيها، وهو ما لم يَعد يحدث إلا عبر برامج وصحف مليئة بالإثارة والتجاوز بغض النظر عن المحتوى والمضمون، ثم تأتى لحظة كاشفة ليدرك الجميع أنهم مسئولون عن صنع كارثة كبرى، فيسعون إلى التبرؤ منها. وفى برنامج شهير للجن والمحارم والتعريض بالسمعة تمت محاربته ومحاربة مقدمته عبر وسائل التواصل الاجتماعى خير عبرة. صحيح البرنامج تم تعليقه واستقالت مقدمته، وأوقف الرعاة رعايتهم، وهلل الجميع للدور الذى لعبته شبكات التواصل الإنترنتية، لكن الصحيح أيضاً أن كثيراً من الذين انقلبوا على البرنامج ومقدمته هم من صنعوه أصلاً، وإن لم يكن هناك التزام حقيقى بمعانى المسئولية تجاه المجتمع والمواطنين، فمن الغالب أن يعود الأمر كما كان بعد أن تهدأ الأمور نسبياً. الانفلات الإعلامى شىء خطير، وهو يختلف تماماً عن الحرية المرتبطة بالمسئولية والمواطنة والالتزام بالمنظومة القيمية العامة فى المجتمع، وفى هذا السياق لا يمكن لمصرى يريد لبلده أن تنجح فى بناء منظومة ديمقراطية فى المجالات المختلفة أن يطالب بأن يعود الإعلام لعصور سابقة كان فيها مجرد آلية للتعبئة العامة لصالح الزعيم المُلهم. لقد فات مثل هذا الزمن ولا توجد أدنى شروطه الموضوعية لكى يُستنسخ مرة أخرى. غير أن هذه الحقيقة لا تعنى أبداً استمرار نمط إعلامى وصحفى يعتقد أن الإفراط والتجاوز هما سبيلا الشهرة ويمارس فى ذلك الادعاء بمعرفة كل شىء وامتلاك الحقيقة والحكمة والنصيحة دون مراعاة لضوابط مهنية أو أخلاقية أو حتى عُرفية. ويدخل فى ذلك حق النقد لكل المسئولين بمن فى ذلك الرئيس نفسه، وهو حق مرتبط بالحرية التى أقرها الدستور ولا تراجع عنها، لكن يظل هناك أسلوب الأداء ذاته. والفارق كبير بين أن ينقد الإعلامى أو الكاتب ويطالب بتصحيح موقف أو سياسة معينة أطلقها أو طبقها الرئيس، وأن يقدم فى ذلك المعلومات الدقيقة، وبين أن يتم التهكم على صاحب القرار والتعامل معه باعتباره شخصية بلا وزن ومُباحاً اغتياله معنوياً. وللأسف الشديد غالباً ما نرى النوع الثانى بلا مبرر سوى إشاعة الأذى وجلب الإعلان والعمولة. وكلاهما أصل الكارثة التى يعيشها إعلامنا المعاصر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف