أعرف ونعرف جميعا أن الأسئلة التى تطرحها تجاربنا السابقة علينا وعلى الحكومة الجديدة وعلى مجلس النواب المنتظر أسئلة صعبة
قاسية توقع الكثيرين منا فى القلق والتردد وعدم الفهم وعدم الشعور بالثقة. لأن التجارب التى مرت بنا ومررنا بها علمتنا أن الحكومات تأتى وتذهب، وأن المجالس تنعقد وتنفض دون أن نعرف الكثير أو حتى القليل عما جاء بها أو عما جاءت هى به وهذا ما أتساءل حوله وأحاول فهمه فى هذه المقالة دون أن أتعرض لحكومة بالذات أو مجلس بالذات.
الحكومة تأتى وتذهب دون أن نحصل على ما كنا ننتظره من إنجازات وحلول لمشاكلنا التى تتكاثر وتتفاقم بدلا من أن تقل وتخف.
كنا نسعى للقضاء على أمية الأميين فأصبحنا نعانى من أمية ـ المتعلمين، وقد «بلغ السيل الذبى والحذام الطبيين» حين قرر الوزير المسئول عن تربية المصريين وتعليمهم أن يجرى حركة تنقلات فى الأبجدية فيضع الذال فى محل الزاى ويضع هذه مكان تلك. وقد التزمت بقراره كما ترون فى المثل السابق الذى يضرب للأمر الذى يزيد على حده فلا يحتمل، فالزبى، وهى فى الأصل بالزاى لا بالذال، هى الربى التى لا يغطيها السيل، فإن علا وعطاها فقد زاد على حده!
وكنا نحلم بتمدين الأرياف فإذا بنا نريف المدن وكنا نطالب برفع مستوى الطبقات الفقيرة والتقريب بينها وبين الطبقات الوسطى، فتحقق لنا ما طلبناه ولكن فى الاتجاه المعاكس. لأن الطبقات الوسطى هى التى افتقرت وانحدرت حتى اقتربت من الطبقات الفقيرة والتحقت بها!
والحكومات تأتى وتذهب دون أن نتعرف حتى على أعضائها الذين يظلون وهم فى مناصبهم مجهولين كما كانوا قبلها، لأننا لا نعرف لهم تاريخا سابقا يبرر مجيئهم ولا تاريخا لاحقا نذكرهم به. وما يقال عن الحكومات يقال عن البرلمانات التى شهدتها مصر طوال الأعوام والعقود الماضية التى فقدت فيها مصر مجتمعها المدنى.
مصر فقدت مجتمعها المدنى لأنها فقدت حقها المشروع فى الديمقراطية. وإذا كنا قد حرمنا فى العقود الماضية من حقنا فى وضع دستور يتحدث بلساننا لا بلسان الحاكم الفرد، ومن حقنا فى تشكيل الأحزاب، ومن حقنا فى معارضة الحكومة ـ وفى مراقبتها ومحاسبتها، ومن حقنا فى تداول السلطة فنحن لم نفقد بهذا حقنا فى النشاط السياسى وحده، بل فقدنا مع النشاط السياسى قدرتنا على ممارسة أى نشاط آخر، وفقدنا شهيتنا للاجتماع وممارستنا للانخراط فى العمل العام. لأن النشاط الحزبى ليس مجرد لافتات توضع أو صور تعلق، وإنما النشاط الحزبى برامج مدروسة ومعلنة توضح المنطلقات الفكرية التى يؤسس عليها كل حزب مبادئه وشعاراته ورؤيته للمشاكل الأساسية التى تواجهها الجماهير وتواجهها الدولة وللحلول التى يقدمها الحزب لهذه المشاكل ويشرحها فى الصحف التى يصدرها، وفى البيانات التى ينشرها، وفى الاجتماعات والندوات التى يعقدها ويدعو فيها لما يقترحه من حلول، ويدخل مع بقية الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية فى مناقشات ومناظرات لا تقتصر على السياسة، بل تتجاوزها إلى مختلف مجالات النشاط الوطنى والإنسانى. لأن هذه المناقشات لابد أن يكون لها مرجع تعود اليه وتلتزم به. وفى هذا المرجع تتصل الحرية بالعدالة، والسياسة بالاقتصاد، والإدارة بالتعليم، والثقافة بالتربية.
الذين يريدون الديمقراطية ويؤمنون بأنها النظام الأمثل يرجعون إلى المبدأ المعروف القائل بأن البشر يولدون أحرارا متساوين. لكن البشر لا يستطيعون أن يكونوا أحرارا متساوين إلا إذا انتظموا بإرادتهم الحرة وبشروط يتفقون عليها فى كيان اجتماعى يشد بعضه بعضا. فالفرد يلتزم بقوانين الجماعة، والجماعة تضمن للفرد أمنه وحريته ونصيبه المساوى لنصيب غيره فى التمتع بالحق وأداء الواجب.
وهذه هى المبادئ التى بشر بها فلاسفة السياسة وفقهاؤها فى العصور الحديثة وأضحت ثقافة عامة لا غنى عنها لأى مجتمع يريد أن يؤسس لنفسه حياة ديمقراطية.
السياسة ثقافة. وبدون الثقافة تصبح السياسة دجلا وشعوذة ومتاجرة بالدين وبأى شىء وبأى قيمة. تخرج من الحرية وتدخل فى الطغيان لتكون تخويفا وتهديدا ورشوة وابتزازا. وهذا ما حدث عندنا طوال العقود التى فقدنا فيها كل شىء. الحرية، والعدالة، والثقافة، والتربية والتعليم. فإذا كنا صادقين مع شعاراتنا التى رفعناها فى الثورتين الأخيرتين فلنخرج من الماضى كله، من السنوات الماضية، والعقود الماضية، والقرون الماضية.
والخروج من الماضى لا يكون بنسيانه أو بعدم معرفته، بل يكون بعدم تكراره. ولكى لا نكرر الماضى علينا أن نراجعه ونميز بين ما فيه من أوهام وأخطاء نعترف بها ونتخلص منها، وما فيه من دروس نستخلصها وننتفع بها.
ولقد رأينا أن الراية السوداء التى يرفعها البعض عندنا فى هذه الأيام تدعو المصريين للسير فى الاتجاه العكسى. أربعة عشر حزبا تضيق بالحاضر فلا تتركه إلى المستقبل، بل تندفع فى الطريق إلى المقابر حيث ينام السلف الصالح. توفيق الحكيم ندد فى مسرحيته البديعة بأهل الكهف الذين جاءوا من الماضى يريدون أن يعيشوا معنا فى الحاضر. ما الذى كان بوسعه أن يفعل مع هؤلاء الذين يريدون أن ينتزعونا من الحاضر ويأخذونا معهم إلى المقابر لنعيش مع ابن تيمية وابن عبدالوهاب؟!
لا.. لن نذهب إلى الماضى، ولن نكرره. لا الماضى البعيد، ولا الماضى القريب. لا مع الحنابلة والوهابيين، ولا مع ضباط يوليو، ولا مع الإخوان والسلفيين، لأننا باختصار نريد الديمقراطية.
والديمقراطية ليست فى الماضى، وإنما تكون الديمقراطية حيث نكون. لكن بشرط هو أن نعرفها على حقيقتها. لأن الديمقراطية كما قلت من قبل ليست مجرد لافتات توضع أو صور تعلق، وإنما الديمقراطية تاريخ، وثقافة، وخبرة، وتربية.
لن نستطيع أن نؤسس لأنفسنا حياة ديمقراطية إذا لم نعرف كيف أسس الآخرون لأنفسهم هذه الحياة. والذى صنعه البريطانيون والفرنسيون والأمريكيون واليابانيون والهنود ليفوزوا بالديمقراطية ويحولوها إلى سمة يعرفون بها وهوية وطنية يؤسسون عليها حياتهم مع أنفسهم وعلاقتهم بالآخرين؟
لم يصنعوا إلا ما صنعه الطهطاوى، وأحمد عرابى، ومحمد عبده، ومحمود سامى البارودى، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، ومكرم عبيد، وأحمد لطفى السيد، ومحمد حسين هيكل. لكن الآخرين واصلوا السير فى طريق الديمقراطية، ونحن توقفنا. خرج علينا الإخوان ليخيرونا بين الدين وبين الديمقراطية. إذا سرنا وراء سعد لنفرض إرادتنا على الملك فؤاد وعلى المحتلين الإنجليز قالوا. لا. الرسول زعيمنا! وإذا دافعنا عن الدستور الذى جعل الشعب مصدر السلطات قالوا: لا. القرآن دستورنا! ثم أضافوا: والموت فى سبيل الله أغلى أمانينا! أى عليكم أن تسمعوا لنا وتطيعوا وإلا فليس بيننا وبينكم إلا الموت. وهذا ما حدث لنا بالفعل طوال العقود الستة الماضية!