نشوى الحوفى
الملازم أدهم الشوباشى.. وكم فى جيشك من «أدهم» يا مصر
ليس بطلاً فى فضاء مزعوم يجلس على مواقع التواصل ويظهر على الشاشات ليتطاول على من ينتقده أو يخالفه الرأى ويدّعى المعرفة. لم يربح الملايين فى خبطة حظ من فيلم هابط أو صفقة فساد أو مباراة كرة قدم ليتصدّر صفحات الجرائد والقنوات. لم يتاجر بإصابته، ولم يحاول عرض بطولة شاهدناها، على الناس والمن بها عليهم كما فعل غيره، رغم أنه يستحق. لم يشكُ ألم العلاج ولا أيام الإحباط التى مرّت به وهو يفكر فى غده، عندما يتملكه الخوف من إصابة قد تعيق العودة إلى موقعه. هو فقط يا سادة الملازم أول أدهم الشوباشى، ضنا عينى وضنا قلبك يا مصر.
التقيته حينما ذهبت إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادى فى يوليو الماضى لزيارة مصابى جيشنا فى أحداث الشيخ زويد بسيناء. لم أكن أعرف أياً منهم، ولا أسماءهم، لكن أرشدونى لغرفة «أدهم». كان راقداً على فراشه يحيط به زملاء له من ضباط جيشك يا مصر. يمنحك منذ اللحظة الأولى الإحساس بأنه قطعة منك، ولدى ربما، يبتسم فى وجهك رغم آلامه، يرحب بك رغم وجعه. عرّفته بنفسى وقبّلت رأسه، وأنا أخفى دموعاً رفضت أن يشعر بها من خلف زجاج نظارة سوداء. يكفيه ما به، فهو بطل، وعليه ألا يرى إلا إحساسنا بالفخر به. جلست على مقعد بجواره، فوجدته يحكى لى ما حدث، وكأنه كان ينتظر جلستنا تلك. فجلست أستمع دون أن أجرؤ على مقاطعته ولو بسؤال.
يا الله كيف لهذا القلب الأخضر الذى ما زال يتحسّس طريقه أن يمتلك كل تلك القوة، ليقاتل طوال سبع ساعات هو ومن يقودهم من جنود، تكفيريين لا يعرفون إلا سواد القلب؟ كيف لهذا الجسد الضئيل أن يتحمّل كل هذا المجهود العصبى والنفسى والبدنى، وهو الذى لم يخبر القتال من قبل؟ كيف لهذا الشاب أن يعيش الموت طوال ساعات القتال وهمه الحفاظ على رجاله وكمينه وسلاحه، فيواجه إصرار تكفيريين على تدمير بلاده بإصرار على حماية عرض وطنه وناسه؟
أستمع إليه وهو يحكى عن رجال يُسمونهم جنوداً، ويسميهم هو ضباطاً. بفخر يقول لك: «كان معى ضباط لا جنود، كل منهم يعلم موقعه، كل منهم يدرك واجبه، كل منهم لا ينتظر الأوامر». يحكى لك عن أصوات الرصاص والتفجيرات والحرص على قتل أكبر عدد من رُسل إبليس ممن يرفعون راية الدين زوراً، ويرتدون ملابس عسكرية بهتاناً. فتضغط على دموعك تحبسها وأنت تسمعه يقول: «قتلنا 22 تكفيرياً فى ساعات، قاربت فى طولها السنوات».
يخبرنى أنه كان على سطح الكمين يقتنص من يتمكن منه بسلاحه أو قنابل كانت بحوزته. أنتفض وهو يشير إلى مكان إصابة فى وجهه، يقول إنها شظية أصابته، لكنه لم يشعر بها إلا حين سال الدم على ملابسه، فيُسارع لحفنة رمل يكتمه بها، ليكمل معركته التى يواصلها بشرف الأبطال، مساعداً مَن بالأسفل من جنوده للدفاع عن كمين الرفاعى، حتى يُصاب بشظايا متسارعة فى نصفه الأسفل من جسده، فيقع على الأرض، ليُكمل قتاله بنصف جسد، زحفاً على يديه. يحكى كيف هرب من تبقى من رُسل الشيطان بعد سبع ساعات من قتال ضارٍ ظنوا فيه أن من كان يطلق عليهم الرصاص من أعلى قد مات. يسمع نقاشهم عن حمل جثث قتلاهم معهم، وكيف انتهوا إلى تركها، لكثرة عددها، ليفروا من الموت.
تسعد بحكيه عن محاولاته إبلاغ قياداته عما جرى بالكمين، وكيف ظنّوه شهيداً. يحكى لك كيف أصر على نقل جنوده من الشهداء والمصابين قبله، وكيف طلب من حامليه وهم يهبطون به سلالم المبنى أن يضعوا قدمه -التى لا يشعر بها- على جثث قتلى رُسل الشيطان، إيماناً منه بأنهم لا يستحقون إلا تلك المنزلة.
أعتاد السؤال عنه، ويعتاد البطل الحديث معى. يسألنى ذات يوم: «هل يشعر القادة فى المناصب العليا -فى ظل مهامهم الجسيمة ومسئولياتهم اليومية- بالجنود المجهولين مثلى ومثل من استُشهد من زملائى؟»، أصمت لأننى لا أمتلك الإجابة عنه. لكن يتلقى البطل الإجابة بتكريم الرئيس له يوم الأحد خلال الندوة التثقيفية بمسرح الجلاء. يحادثنى ضنايا فرحاً ليخبرنى: «أيا أماه، احتضننى الرئيس ولمس جُرح وجهى، وسألنى إن كنت بحاجة إلى شىء. الآن أدركت إجابة سؤالى لكِ يا أمى، أنا بخير، أنا عائد لموقعى.. لتحيا مصر».
هذا يا سادة ببساطة ضنايا وسند بلادى وحامى عرضى وأرضى.. المقاتل أدهم الشوباشى.. وكم فى جيشك من «أدهم» يا مصر..