الوطن
سهير جودة
إعلام كوكب القرود
اشتهرت الصحافة قديماً بأنها مهنة البحث عن المتاعب، والآن أصبحت الصحافة مرئية ومقروءة مهنة البحث عن الفضائح واللهث وراء التدنى والأسوأ. مهنة الصحافة بأشكالها المختلفة أصبحت مهنة للفخر وللخجل معاً، الفخر بقوة تأثيرها والخجل من مستواها وغياب العقل عنها، وغائب العقل لا يعطيه.

الخجل والأسف من الظواهر التى أصبحت الأكثر انتشاراً فى مهنة الصحافة المكتوبة والمرئية لأنها تعبر عن مرض حقيقى عضوى وعقلى، وإذا أردنا وصف الحالة الصحفية والإعلامية بكلمة واحدة سواء المناخ الذى تمارَس فيه هذه المهنة أو المحتوى الذى تصدره أو الأداء العام للصحفيين والإعلاميين أو طريقة تعاملهم مع الأحداث والأشخاص والقضايا، لن نجد أدق من كلمة «هستيريا» لوصف وتوصيف هذه الحالة. كل شىء معتمد على الفعل ورد الفعل دون مجهود مهنى حقيقى يبذَل والأشياء دائماً تحت عدسة مكبرة تعملق الأشياء، فأى حادث وأى حدث يتم التعامل معه على أنه مصيبة، وأى خطأ يصنف فى فئة خطيئة، وأى إنجاز يوضع فى خانة معجزة، وهكذا كل الأشياء أكبر من حجمها وحسب الاتجاه الذى تصدر به القصة أو الموقف وعلى حسب المزاج العام وقتها، وأحياناً حسب الانطباع الأول، أما كل ما له علاقة بمهنة الصحافة والإعلام فهو شبه غائب، المعلومة الدقيقة، التحقيق الموضوعى، البحث المعمق، السعى للحصول على إجابات حول الأسئلة الأهم، وبذل الجهد للوصول إلى كل الأطراف المعنية واستكمال ملامح الصورة والوعى بها وبأبعادها. كل هذا غائب ومفقود.

والغريب أن السباق المحموم والهستيرى فى الصحف والمواقع وشاشات الفضائيات أصبح على كل ما هو أردأ وكل ما هو متدنٍّ. مزاد كبير مفتوح على البضائع المضروبة أو منتهية الصلاحية أو بلا مواصفات بينما الأشياء الثمينة فهى غير موجودة أو موجودة على الهامش وعلى استحياء.

مزاد مفتوح على التفاهات والقضايا الهامشية والإثارة والغرائز والخرافات والتجهيل والمسوخ الفنية والمماحكات السياسية والشجارات الرياضية والفتاوى الشاذة وموضوعات غرف النوم واستباحة الحياة الشخصية، لدرجة تشعرك كما لو أن صفحة الحوادث أصبحت هى الصفحة الأولى فى الإعلام والصحافة بشخوصها وجرائمها وعاهاتها، وكما لو أن شعراء الهجاء المشغولين فى العصر الجاهلى -وأحياناً يعملون بأجر- من أجل هجاء شخص أو قبيلة أصبحوا هم ملاك المنصات التليفزيونية، وكما لو كان نموذج صحف التابلويد الصفراء أصبحت هى القدوة والمثل الأعلى للمحتوى المنشور والمعروض.

ومن بين عشرات الأصوات التى تتحدث عن الشاشات نكاد نحتاج إلى ميكروسكوب شديد الدقة حتى نخرج أسماء ونماذج لا تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة تقدم شيئاً له قيمة وله معنى وله منطق وبه ضمير ووعى، وهؤلاء قد يختفون تحت طوفان من الأقلام والوجوه التافهة والمرذولة والمأجورة أحياناً، أصبح مناخ الساحة الإعلامية بصحافتها ومواقعها وفضائياتها يشبه كوكب القرود، الجميع يتقافز من مكان إلى مكان ويتشاجر ويستعرض ويبث السواد والجهل ويملأ الصفحات والفضاء صخباً وضجيجاً أجوف.

لو أن المحتوى الإعلامى الذى يقدم تم تحليله منهجياً لاكتشفنا أننا أمام جريمة كبرى، لو أن هناك مرصداً يقيس يومياً كم الأخبار المكذوبة وكم العناوين المثيرة الفضائحية والتى لم يكن لها علاقة بالموضوع الذى يتحدث عنه، وكم من المقالات أو الحملات الصحفية أو حلقة تليفزيونية كُتبت أو صُنعت لحساب شخص ما أو جهة ما، لكانت النتيجة أكثر إيلاماً وخجلاً.

إذا كانت القاعدة تقول إن الذين أفسدوا لا يمكن أن يكونوا هم أنفسهم من يصلح، فهل علينا أن ننتظر من أشعل النيران أن يطفئها، وبالتالى القطاع الخاص فى الصحافة المكتوبة والمرئية وملاك الصحف والشاشات وهم رجال المال والمتهمون بأنهم يطلقون هذه القنوات ويصدرون الصحف لتكون أذرع نفوذ اقتصادى أو سياسى لهم، هل يملكون قراراً، أم أن الموضوع خرج عن سيطرتهم هم أنفسهم، فالواقع يؤكد أنه ليس فى أيديهم سوى فرض الانضباط الإعلامى على العاملين فى مؤسساتهم وتطبيق مجموعة من قواعد الشرف المهنى يتم توثيقها فى المؤسسات المعنية مثل نقابة الصحفيين واتحاد الإذاعة والتليفزيون وإلزام الجميع بهذه المواثيق التى لا يجب أن تتوقف عند القيم والأخلاق ولكن مواثيق تتعلق بأصول المهنية وليست مواثيق تمس الحرية بأى حال من الأحوال.

فهل يستطيع أصحاب القنوات وهل يريدون؟ أم أن الجميع قد استسلم أو ارتضى أن يتحول المجتمع عبر الإعلام (صفحات وشاشات) إلى ماخور كبير وسيرك رياضى ودينى وجنسى، وهو حال لا يمكن قبوله أو استمراره..

لا يمكن لمجتمع أن يتطور بلا تعليم وبإعلام يكتفى بتصدير السواد والضلال أو الهبوط.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف