تحدثنا في مقالات متعددة عن العلاقة بين الدين والسياسة، وأكدنا مرارًا أهمية ترسيخ مفهوم الدولة الوطنية والبناء الوطني الصلب الذي يسع الجميع على أساس الحقوق والواجبات الوطنية المتبادلة، وعلى عدم المتاجرة بالدين أو استغلاله في المصالح السياسية أو الحزبية .
والطبيعيّ والمفترض والمنتظر أن يعمل العلماء على ما يبني لا ما يهدم ، وما يجمع ولا يفرق ، وأن يفرقوا بين ما هو ديني شرعي قطعي الثبوت والدلالة ، وبين ما هو ظني الدلالة يحتمل الرأي والرأي الآخر ، ويُعد الخلاف فيه سعة للأمة، وسعة عليها، وكما قال سيدنا عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) : ما يسرني أن أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) لم يختلفوا ، أي لم يختلفوا في الرأي وفهم النص ، لأنهم لو لم يختلفوا لكان ذلك مشقة على الناس، إذ إن أكثر ما يتصل بالمعاملات وتنظيم شئون الناس ونظام حياتهم مما فيه متسع كبير ، وقد تختلف الفتوى فيه باختلاف الزمان أو المكان أو الأحوال، فما كان راجحًا في عصر وفق ظروف هذا العصر قد يصبح مرجوحًا إذا تغير الزمان، وما تكون الفتوى فيه راجحة في مكان ما نظرًا لطبيعة هذا المكان، فإنها قد تصبح مرجوحة إذا تغير المكان أو الحال واستدعى الأمر اجتهادًا جديدًا يجعل المرجوح راجحًا، والراجح مرجوحًا.
والمنتظر من العلماء والفقهاء والمفكرين العقلاء في كل زمان ومكان أن يكونوا رجال فكر وعقل ، ودعاة أمن وسلام بحق وصدق وإخلاص، مستحضرين منهج الإسلام في ترسيخ أسس التعايش السلمي بين البشر جميعًا ، مؤثرين المصالح العليا للإنسانية على مصالحهم الشخصية الضيقة، ولنا في منهج النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي رسخه لأسس التعايش بين أهل المدينة جميعًا على اختلاف أديانهم وأعراقهم وقبائلهم أفضل الأسوة ، وذلك حين أعلن (صلى الله عليه وسلم) أن المسلمين مع يهود المدينة الذين عددهم النبي، صلى الله عليه وسلم) قبيلة قبيلة، أمة واحدة، وجاء الإنصاف الكامل حين قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، كما آخى (صلى الله عليه وسلم) بين أصحابه على اختلاف أعراقهم وقبائلهم، مع ما كان بين الأوس والخزرج من إحن وعداوات تاريخية ، وهو ما ذكره الحق سبحانه في قوله تعالى : «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».
فالأصل أن يقود العلماء التوافق لا أن يقودوا الخلاف، ولا أن يُزكوا جذوة الشقاق، ولكن شطط بعض العلماء والمفكرين في الذهاب إلى أقصى الطرف، وبحث بعضهم عن الشاذ من الآراء ،وربما حب الظهور أحيانًا، ومجاملته السلطات أحيانًا أخرى، ومسابقة بعض المحسوبين على العلماء في إذكاء التطلعات التوسعية لبعض الدول وإلباسها ثوب الواجب الديني، إنما يسهم في بث الفرقة، وربما تأجيج الفتن على حساب جمع الشمل الذي لا غنى عنه للأمة، وللمنطقة، ولتحقيق أمن وسلام العالم، إن كنا جادين في البحث عن هذا السلام والعمل على تحقيقه، وتخليص الديني من السياسي، والمذهبي من التوظيف السياسي للدين أو للمذهبية .
فبدل أن يكون صوت العلماء هو صوت الحكمة والعقل ووحدة الصف ونبذ الشقاق دائما، صار صوت بعض المذهبيين المتعصبين منهم غير المدركين لفقه الواقع صوت فرقة وشقاق في بعض الأمور ، وربما كانت الرغبة في إرضاء بعض الحكام، أو الأهل والعشير، أو النصير والأتباع والمريدين، وراء التشبث ببعض الآراء أو الفتاوى، دون النظر في العواقب الوخيمة التي يمكن أن تترتب على تبني الآراء الشاذة أو العصبية العمياء دون إعمال حقيقي للفكر والعقل والمنطق .
علينا جميعًا أن ندرك أن القضاء على الآخر والمختلف ومحوه من الذاكرة الإنسانية يُعد أمرًا مستحيلا ومخالفا لسنن الله الكونية، الذي خلق الناس مختلفين، يقول سبحانه: «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ H إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»، كما أن محاولة محو الآخر أو تقزيمه ستقابل بمحاولة مماثلة ، فيدخل العالم كله في صراعات دينية ومذهبية لا تبقي ولا تذر ، ولا تخلف سوى الخراب والدمار والهدم والإفساد .
إن الطبيعي أن يكون العلماء أعلام استنارة، وأعلام سلام، وأعلام حوار ، وأعلام تقارب ، وأعلام وفاق لا عناوين شقاق ، يجمعون ولا يفرقون ، يبنون ولا يهدمون ، وهو ما يجب أن نسعى جميعًا إليه ، ونعمل على تحقيقه .
ومن الجدير بالذكر ونسبة الفضل إلى أهله أن اجتماعًا هاما عقد بالرابطة العالمية لخريجي الأزهر برئاسة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر تناول بعض قضايا الأمة، وعرض فيه فضيلة الدكتور عبد الفضيل القوصي وزير الأوقاف الأسبق لحال العلماء ودورهم وما يجب أن يكون منهم لجمع الشمل، وهو ما ألهمني فكرة هذا المقال .