هذه هى الحلقة الرابعة فى دراسة «غروب الجماعة»، وفيها نلقى الضوء على قضية «الخلافة»، حيث تمثل إحدى القضايا المهمة فى فكر الجماعات الإسلامية بعامة، والإخوان المسلمين بخاصة، والخلافة لغة هى الإمارة، والإمامة، والخليفة هوالمستخلف (بفتح اللام)، والسلطان الأعظم، يقول تعالى: «وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة» (البقرة: ٣٠)، أى يخلفنى فى تنفيذ أحكامى -كما جاء فى تفسير الجلالين- وهو آدم عليه السلام وذريته، ومما نقل عن ابن كثير عن القرطبى أنه استدل بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة، ليفصل بين الناس، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطى الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التى لا تقام إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وفى صفوة التفاسير، يقول الصابونى: «الخليفة من يخلف غيره وينوب منابه، وقد جاءت بصيغة فعيل بمعنى فاعل وأضيفت التاء للمبالغة، وسمى خليفة لأنه مستخلف عن الله عز وجل فى إجراء الأحكام وتنفيذ الأوامر الربانية، قال تعالى «يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض».
وكان الصديق (رضى الله عنه) يدعى بخليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولما خلفه عمر (رضى الله عنه)، استثقل المسلمون أن ينادى بخليفة خليفة رسول الله، ومن ثم نُودى بأمير المؤمنين، وكذا كان عثمان وعلى (رضى الله عنهما) ومن جاء بعدهما، وإن ظل لفظ الخليفة قائماً.
فى كتابه (فقه الخلافة وتطورها)، يبين «السنهورى» أن ما يميز الحكومة (الخلافة) الصحيحة عن أى نظام آخر هى ثلاثة مبادئ: أولها: أن هذا النظام مبنى على أساس تعاقدى (البيعة الحرة)، أما القوة أو العنف فهما مستبعدان تماماً، ثانيهما: أن من يرشح نفسه للحكم (الخلافة) يجب أن يتوفر فيه شروط الأهلية التى تضمن حسن سير الحكومة، وثالثها: عمل نظام (الخلافة) ويشمل التزام الحكومة (الخليفة) بأحكام الشريعة الإسلامية أثناء ممارسة الاختصاصات السياسية والدينية، وولاية الخلافة عامة على دار الإسلام لضمان وحدة العالم الإسلامى، أما الدول التى جاءت بعد عهد الراشدين (بدءاً بالخلافة الأموية وانتهاء بالخلافة العثمانية) فقد اعتبرها «السنهورى» خلافة ناقصة، لأنها اعتمدت على فكرة الضرورة، وهذه نشأ عنها مبدآن أساسيان: أولاً: أن الضرورة تجعل من المحظور جائزاً، وثانياً: أن الضرورة تقدر بقدرها فلا يتعطل من الأحكام إلا ما تجعله الضرورة مستحيلاً، ترتب على ذلك أمران: ا- تلتزم الحكومة الناقصة بكل قواعد الحكومة الصحيحة التى لا تعطلها الضرورة، وب- أن الحكومة الناقصة لا تستمر إلا طالما وجدت حالة الضرورة التى سببتها فقط، والدارس لتاريخ هذه الدول يلاحظ أن مساحة الضرورة تجاوزت حدوداً كثيرة، من حيث اعتماد القوة والعنف وإسالة الدماء للسيطرة على الحكم، وإهدار مبدأ حرية البيعة الذى توجبه الشورى، وقد اضطر العلماء أنفسهم للخضوع أمام هذا الواقع المفروض بالقوة والغصب، وهكذا ظهرت الحكومات الناقصة كواقع تاريخى.
فى كتابه (العالم الإسلامى المعاصر)، يقول جمال حمدان: «العصور الوسطى هى عصر الدين بامتياز، سواء فى ذلك الشرق أو الغرب، ولكن الخلافة، التى كانت تجسد وحدة العالم الإسلامى مركزياً فى العصر البطولى للإسلام إبان الدولة العربية الإسلامية، كانت قد بدأت تتفكك، وانقسم العالم الإسلامى إلى عدد قل أو كثر، سريع التغير كالكليدوسكوب (بالعربية مشكال)، من الدول المنفصلة المستقلة، وأحياناً هوت هذه إلى زحمة مربكة كرقعة الشطرنج من الدويلات والإمارات والأتابكيات، حتى فقد العالم الإسلامى وحدته السياسية الأولى، ولعل جزءاً من السبب فى هذا التفتيت أن نطاق العقيدة كان قد اتسع كثيراً عما كان عليه فى صدر الإسلام، ولم يعد تلك الكتلة الأرضية المتصلة المندمجة بعد أن قفز عبر حدود الصحارى هنا وعبر البحار هناك»، ثم يقول: «إن الخطر الخارجى كان منذ البداية هو المحرك الأكبر لدعوة الوحدة الإسلامية، ولعل خير من يرمز إلى هذا ويلخصه ابن تيمية فى القرن الرابع عشر (ومن بعده تلميذه ابن قيم الجوزية)، فهو عند جمهرة الفقهاء المحدثين أول دعاة الوحدة الإسلامية، وهو فى هذا صدى لعصره، عصر تفكك وتمزق الدول الإسلامية وعصر الأخطار الخارجية المحدقة، غير أنه بواقعية ملحوظة لم يدع إلى دولة إسلامية عالمية موحدة، وإنما إلى شىء أشبه -فى تقدير المحدثين- «باتحاد كونفيدرالى» يجمع العالم الإسلامى جميعاً، ولكن من الواضح أن شيئاً من ذلك لم يتحقق».
نعلم أن هناك فارقاً بين الدين والتدين، فالأول هو الدين المُنزل، والثانى هو الدين المطبق، وهذا الأخير يختلف من فرد لآخر، ومن جماعة لأخرى، ومن زمن لآخر، كما أن التعاطى العلمى (فهماً وتحصيلاً) لنصوص الدين ومعانيه وأحكامه، لا يخلو من الاختلاف النظرى، يضاف إلى ذلك «ما لا نص فيه أو المسكوت عنه»، وهو المتروك للاجتهاد، وتحكمه بالدرجة الأولى قاعدة «المصالح المرسلة»، وفق مقاصد الشريعة، ويأخذ فيه التنوع والاختلاف مداه، هذا فضلاً عن الكثير من القضايا الملتبسة عند الإسلاميين، وعند خصومهم أيضاً، مثل علاقة ما هو إسلامى بما هو قومى، أو بما هو وطنى، ناهينا عما نسمعه ونراه اليوم من إسلام شعبى، وثان رسمى، وثالث سياسى، ورابع صوفى، وخامس سنى، وسادس شيعى، وسابع راديكالى، وثامن إصلاحى، وتاسع انقلابى.. إلخ. وقد يكون التنوع على أساس قومى أو جغرافى، فيميز فيه بين إسلام آسيوى وآخر أفريقى، وإسلام مغربى وآخر مشرقى، وإسلام عربى وآخر عجمى.. إلخ.
فى ظل هذا التنوع والاختلاف، يصبح الحديث عن الخلافة بالمعنى الذى قصده «السنهورى» بالخلافة الصحيحة، أو حتى الناقصة، التى يسعى إليها البعض (من «البنا» وحتى «داعش») غير ذى جدوى، ويطرح جمال حمدان (المرجع السابق) رؤيته لهذه القضية، فيقول تحت عنوان «الدور الأصيل» إن: «توحيد الدين، بمعنى توحيد عقيدة الإسلام لا المسلمين (يقصد كدولة)، لتذويب الفروق والفرق الحفرية التى ورثها عن ماض فقد الآن سياقه الزمنى؛ وتعميق روح الإسلام، التبادل الثقافى والفكرى العام والمزيد من التنسيق الاقتصادى والتضامن السياسى الوثيق فى المجتمع الدولى لمجابهة الأخطار الخارجية والتعاون لتحرير الدول الإسلامية المستعمرة.