من الموضوعات التى تثار بين الحين والآخر،مسألة تطبيق أحكام الشريعة، والقارئ لكل الآراء التى تتحدث عن المسألة يجد أنها تتعارض وتختلف فيما بينها، حيث يرجع بعض الناس المشكلات التى تعانى منها الدول الإسلامية إلى عدم تطبيق أحكام الشريعة، وأن صلاح الحال مرهون بها، بينما يذهب البعض إلى القول ببطلان الأنظمة الحاكمة فى الدول الإسلامية لعدم تطبيقهم لها،وقد يلجأ بعضهم إلى قطع أيدى بعض الناس أو جلدهم بزعم تطبيق الشريعة التى لا يطبقها الحكام، وربما يكفر بعضهم الحكام ومن يرضى بحكمهم لتعطيلهم أحكام الشريعة، وكأننا فى مجتمع جاهلى يجب أن يدخل فى الإسلام ويطبق أحكام شريعته!
ولذلك لم أتعجب عندما سألنى رئيس الحزب المسيحى الفرنسى سؤالا مباشرا عن رأيى فى مسألة تطبيق الشريعة،فقلت له:أظنك تقصد ما يقصده كثير من الناس حين ينادون بتطبيق أحكام الشريعة، وهو إقامة الحدود ؛ أي: القصاص من القاتل ، وقطع يد السارق ،وجلد الزانى وغير ذلك .قال: نعم هذا ما أقصده.فقلت له : تطبيق أحكام الشريعة واجب بلا نزاع بين الفقهاء، ولكن أحكام الشريعة ليست محصورة فى هذه العقوبات،بل هى جزء من أجزاء كثيرة يكون مجموعها أحكام الشريعة الإسلامية،فالشريعة نظام متكامل يضبط حركة المجتمع وينظم العلاقة بين الخلق وخالقهم، وعلاقات الناس فيما بينهم حتى لا يظلم بعضهم بعضا ولا يتنازعون فيما بينهم، وهى على ذلك تشمل أحكام العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج بعد النطق بالشهادتين،وتشمل أحكام المعاملات المالية من بيع وشراء وغيرها من المعاملات الإنسانية التى تكون بين المسلم وأخيه المسلم أو بين المسلم وغيره من أصحاب الديانات الأخري، كما تشمل الأخلاق وتقويمها،وحتى بعد انتقال المرء إلى رحاب ربه تبين أحكام الشريعة كيفية تجهيزه ودفنه وتقسيم تركته بين ورثته،وغالب ما ذكرت مطبق بالفعل بين الناس ،وتبقى المشكلة فى الشق العقابى ،حيث جاءت الشريعة الإسلامية بنوعين من العقوبات ،النوع الأول :نوع محدد أى يشمل عقوبات محددة فى جرائم محصورة منها:القتل، والإفساد فى الأرض أو قطع الطريق، والزنا، واتهام الناس به (القذف)، وشرب الخمر، والنوع الثانى :عقوبات تعزيرية (تأديبية) فى مخالفات كثيرة غير محصورة وهى كل مخالفة أو إساءة لم ترد لها عقوبة ملزمة فى شريعتنا، كالإهانة للغير والرشوة والمماطلة فى سداد الديون ومخالفات المرور والغش التجارى والصناعى وغير ذلك، حيث تركت الشريعة هذا النوع من المخالفات إلى قضاة المسلمين يقدرون فيها العقوبة المناسبة، ويحق لهم تشديدها أو تخفيفها أو حتى إسقاطها بعد الحكم بها، ويجوز للمتضرر العفو عن المعتدى عليه بعد إصدار القاضى للعقوبة ويكون القاضى ملزما بقبول عفوه،وإن بقى له حق معاقبة المخالف لردع المجتمع أو خشى أن يعود المخالف للمخالفة.وهذه العقوبات التى يطلق عليها البعض أحكام الشريعة، تمثل 5% من أحكام الشريعة،حيث إن آيات الأحكام فى القرآن الكريم لا تتجاوز ٥٠٠ آية يخص العقوبات منها عشر آيات فقط، فإذا افترضنا أن القسم التعزيرى من العقوبات هو نصف العقوبات مع أنه أكثر من ذلك بكثير إذا ما نظرنا إلى المخالفات التى تندرج تحته مقارنة بالعقوبات المحددة التى وردت فى جرائم محصورة فى جرائم معينة فقط، وإذا اعتبرنا القسم التعزيرى متضمنا فى القوانين الوضعية المعمول بها،بل إن كثيرا من العقوبات التى فى القوانين الوضعية أشد من العقوبات التعزيرية ، لأن العقوبات الوضعية محددة وملزمة فى كثير من الأحيان ،فتبقى الإشكالية فى النصف الآخر المحدد من العقوبات الشرعية الذى يمثل نسبة ربع عشر أحكام الشريعة؛ أي2.5%لا غير، ومع ذلك فتطبيق هذا الجزء مهم وواجب على حكام المسلمين دون غيرهم يلزمهم السعى لتطبيقه متى أمكن تطبيقه بين الناس بتهيئتهم وتثقيفهم بأهميته وأنه لن يضيرهم بل سيحميهم،ومتى اتخذت التدابير الكفيلة بضمان سلامة التطبيق فى إجراءات التقاضى وعدالة الشهود، ولا يجوز لغير الحاكم الأعلى أو من يفوضه تطبيق هذه العقوبات من تلقاء نفسه،ومن يفعل ذلك من الناس كما تفعل بعض الجماعات أحيانا يعتبر معتديا على من قطعه أو جلده ويجب على الحاكم معاقبته على ما ارتكبه من جرم، ولا يسقط فعله هذا الإثم عن مرتكب الجريمة لأن ما حل به لم يكن عقوبة وإنما اعتداء من غير ذى صفة.
وبعيدا عن حوار ضيفى الفرنسي، فقد تبين أن زعم عدم تطبيق أحكام الشريعة باطل، وأنه لا يجوز هدم الجزء الأكبر المطبق بين الناس فى عباداتهم ومعاملاتهم فيما بينهم بعدم التطبيق الجزئي،لأن الحكم للغالب وليس للأقل أو الأدني، وأنه من الخطأ الظن بأن إقامة هذا الجزء المعطل من أحكام الشريعة هو المفتاح السحرى الذى سيعيد المجتمع إلى ما كان عليه فى صدر الإسلام ويقارب بيننا وبين الصحابة زهدا وورعا وعدلا ،فهؤلاء لم ينضبطوا خوفا من عقوبات الحدود،وإنما بترسخ قيم الحق والعدل ومبادئ الإسلام وأخلاقياته فى نفوسهم،ولذا فإن المستقيم على هذه المبادئ لا يتضرر فى شيء سواء أقيمت الحدود أو لا،فجميعنا يعلم بأن القتل والسرقة وشرب الخمر والزنا والإفساد فى الأرض حرام وأن الفاعل يعاقب فى الدنيا بعقوبات موجعة، فإن تعطلت عقوبة الدنيا أو أفلت منها وهو ممكن فى ظل تطبيق العقوبات الشرعية متى لم يشهد عليه أحد ولم يعترف بارتكابها من تلقاء نفسه، أو وقعت شبهة فى نسبة الجريمة إليه،فإن عقوبة أشد تنتظره فى الآخرة،ولذا فلا يجوز تعليق انفلات الناس وارتكابهم الجرائم وفساد الذمم على شماعة عدم تطبيق أحكام الشريعة، التى يمكن أن تعطل نتيجة ظروف آنية يرى معها تعذر التطبيق كما فعل سيدنا عمر فى عام الرمادة، حيث أوقف حد قطع يد السارق لشبهة الجوع الذى عم الناس،ومع ذلك لم يقل أحد إن السرقة أصبحت مباحة ولم ينقل أن وقف التطبيق لهذا العارض تسبب فى تحول المجتمع وقتها إلى سارق ومسروق منه،لأن الرادع موجود فى نفوس من تعلموا فى مدرسة النبوة ضبط سلوكياتهم مهما قست الأحوال.