محمد عبد الهادى علام
الحرب على داعش.. وصفقة «رافال»
خرج الملايين من المصريين من منازلهم صباح يوم الاثنين الماضي وقد غالبهم شعور الفخر بقواتهم المسلحة التي ردت من فورها علي عملية القتل البربرية لـ«21» مواطناً مصرياً في ليبيا
علي يد تنظيم الدولة «داعش» وضمدت الضربات الجوية التي أمر بها الرئيس عبد الفتاح السيسي القائد الأعلي للقوات المسلحة، بعد كلمته للأمة في تلك الليلة الحزينة، الكثير من جراح المصريين الذين أمضوا ليلة حزينة أمام شاشات التليفزيون غير مصدقين أننا نعيش القرن الحادي والعشرين، حيث يذبح البشر أمام الكاميرات بوحشية غير مسبوقة، ويرتوي البحر المتوسط بدماء شباب يافع كانت كل جريمته هو سعيه وراء لقمة العيش في بلد شقيق. علي مدي الأيام القليلة الماضية حددت مصر إطارا جديدا لعلاقتها بتطورات الأوضاع في محيطها العربي، وقررت الوقوف الحاسم في وجه جماعات الإرهاب التي استفحلت في أركان المنطقة وتهدد كيانات دول مجاورة، والأهم هو الرد العسكري علي الجريمة الشنعاء التي ارتجف لها العالم بأسره في ليلة لم نشهدها في تاريخنا المعاصر.
اُستشهد أبناء مصر البسطاء رافعين رءوسهم في مواجهة القتلة الجبناء الذين تخفوا وراء أقنعتهم السوداء، تاركين وراءهم أسرا مكلومة، ووطنا موجوعا من أثر الصدمة، ولم يطلع الصباح حتي كانت أوامر الرئيس للجيش العظيم بشن غارات فورية علي تجمعات وثكنات المجموعات الإرهابية في محيط مدينة «درنة» الليبية، في دفاع شرعي عن النفس، وفي مواجهة تهديد السلم والأمن الدوليين بما يتوافق مع ميثاق الأمم المتحدة، وقد جاءت زيارة الرئيس السيسي للكاتدرائية المرقسية لتقديم واجب العزاء بعد ساعات من الضربة الجوية الناجحة لتضمد جرحا غائرا ويبعث برسالة إلي العالم كله أن مصر ليست مثل أي بلد آخر، ولا تزيدها المحن إلا صلابة وتماسكا بين أبنائها، وهي الرسالة التي وصلت إلي مراكز عديدة لصناعة القرار في العالم وأصابت البعض بمزيد من الإحباط من عدم قدرتهم علي شق الصف الوطني في مرحلة بالغة الخطورة يظنون فيها أن الجبهة الداخلية في أضعف حالاتها ولكن التقديرات المضطربة لدي تلك القوي الهدامة لم تمكنهم من الوصول إلي حقيقة أن مصر تزيدها الضربات الخسيسة صلابة وعزيمة.
تلك أول حرب تخوضها دولة 30 يونيو ورئيسها، وهي حرب ربما تأخر توقيتها ولكنها جاءت في إطار القانون الدولي وحق الرد علي أعمال العدوان وبعد الاتصال مع الحكومة الشرعية في ليبيا، وفي جلسة مجلس الأمن الخاصة حول ليبيا أمس الأول، عبر وزير الخارجية سامح شكري عن الموقف المصري بوضوح أمام المجتمع الدولي فقال إن الحل السياسي في ليبيا ضرورة لا غني عنه ولكنه لن يغني عن مواجهة الإرهاب عسكريا، وحدد شكري بعبارات واضحة عددا من الشواهد التي تؤكد خطورة المشهد الراهن في مقدمتها، أن مصر تستشعر تهاونا من المجتمع الدولي تجاه حملة السلاح في ليبيا ومحدودية دور المجتمع الدولي إزاء ما يجري هناك وهو ما فتح الباب أمام تهديد متعاظم لأمن المنطقة وللبشرية كلها، وعليه تضع مصر المجتمع العالمي أمام مسئوليته التاريخية، وطرحت مصر، من المنطلق السابق، ضرورة رفع حظر التسليح عن الجيش الليبي من أجل مواجهة التنظيمات المتطرفة وإيجاد آلية تحول دون وصول السلاح إلي الميلشيات المسلحة، وأكدت أن الأطراف المسلحة ممولة من أنظمة وقوي إقليمية ودولية، وأن تمويل بعض الأطراف التي شاركت في الثورة الليبية استهدف السيطرة علي الدولة في مرحلة لاحقة.
أن جرائم جماعة داعش الإرهابية تأتي في إطار سلسلة طويلة من الجرائم التي تتعرض لها مصر منذ إنهاء حكم الجماعة الظلامية وتساند تحركات قوي الإرهاب حكومات لا تتورع اليوم عن إلحاق الضرر بالمصالح المصرية في ظل أطماع إقليمية مريضة، وفي مقدمة تلك الحكومات قطر وتركيا. وقد كانت كلمة مصر في اجتماع الجامعة العربية يوم الأربعاء، والتي أغضبت داعمي الإرهاب، معبرة عن نفاد الصبر من السلوك المريض لتلك العواصم التي تضيق بالنقد لتصرفاتها المشينة، ولكنها لا تشعر بوخز الضمير وهي تري الأبرياء من المصريين تسفك دماؤهم في مجازر جماعية الهدف منها محاولة كسر عزيمة الشعب المصري. الشارع المصري بدوره يشعر اليوم بارتياح كبير لتناغم التحركات السياسية والدبلوماسية والعسكرية وسرعة رد الفعل بعد جريمة قتل المصريين في ليبيا وبات المصريون علي يقين أن القيادة السياسية لن تترك حقوقهم بعد اليوم تهدر علي يد قوي الظلام ومن يؤيديهم إقليميا ودوليا، ومازال الرئيس السيسي يؤكد أهمية تجديد الخطاب الديني باعتباره ضلعا مكملا لجهود المواجهة الشاملة لقوي الإرهاب، ولن تكلل المواجهة بالنجاح ما لم ننجح في إصلاح الخطاب، وقد طلبت مصر في اجتماع طارئ لمنظمة التعاون الإسلامي بشأن مكافحة الإرهاب والتطرف في جدة يوم الأحد الماضي من الدول الأعضاء تبني خطوات محددة وملموسة تتمثل في إنشاء آلية في إطار منظمة التعاون الإسلامي لوضع أساس الإصلاح الفكري وتحديث الخطاب الديني لإعلاء قيم التعايش السلمي ونبذ العنف، ومواجهة التطرف وسرعة تفعيل معاهدة مكافحة الإرهاب الموقعة عام 1999 والتي توفر إطارا مناسبا لتجفيف منابع الإرهاب عبر تعزيز برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحسين جودة التعليم وإيجاد مزيد من فرص العمل وإدانة كل دعوات التحريض التي تطلق عبر فضائيات تبث إشاراتها من خلال الدول الإعضاء، ولو عدنا إلي التاريخ لاستخلاص العبرة، سنجد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قد طلب من مجمع البحوث الإسلامية في مطلع الستينيات نفس الطلب، ودعا إلي إصدار كتب لتوضيح المفاهيم الصحيحة ونقد الأفكار البالية الظلامية وتنقية أحاديث نبي الإسلام محمد صلي الله عليه وسلم من الأحاديث المدسوسة ولكن للأسف بعد وفاة عبدالناصر، وتحديدا بعد انتصار أكتوبر، انقلبت الصورة وبدأ الرئيس الراحل أنور السادات في عقد صفقات مع جماعة الإخوان.. واعترف عام 1981 بأنه أخطأ عندما أخرجهم من السجون قبل أن تغتاله تلك الجماعات المارقة.
أن الدولة المصرية اليوم تتحرك وفقا لاستراتيجية واضحة المعالم تعتمد علي محاصرة قوي الارهاب ومواجهة الثغرات التي تستفيد منها قوي الظلام في الداخل والخارج ومن أهم معالم تلك الاستراتيجية:
- التعويل علي إيقاظ المجتمع الدولي من غفلته من خلال المشاركة الواعية والجادة في اجتماعات مجلس الأمن ومؤتمر واشنطن لمكافحة الإرهاب.
- التنسيق مع روسيا (التي تضع الجماعة علي قائمة المنظمات الإرهابية) ومع الصين وفرنسا وإيطاليا لاعتبار الجماعة منظمة إرهابية.
- تبني موقف واضح من السياسات القطرية والتركية الداعمة لقوي التطرف في المنطقة واستمرار الدعوة لفرض حصار بحري لمنع سفن تقل الأسلحة من الوصول للشواطئ الليبية، والتنسيق مع دول الجوار الليبي (السودان والنيجر وتشاد والجزائر وتونس) لمنع تهريب السلاح برا.
علي صعيد الجبهة الداخلية، تنظر الدولة في إجراءات تفوت الفرصة علي الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية ومنها مواقف خاصة بالحسم في بعض مظاهر الفساد وعودة رموز الفساد من خلال الانتخابات البرلمانية ومظاهر أخري متشابكة في الواقع الراهن مثل قضية تضارب المصالح التي تتورط فيها جهات في الدولة ومسئولون كبار، ووقف تلك الممارسات هو جزء من بناء الدولة المدنية ودولة القانون وعامل مؤثر في إتمام عملية الإصلاح الاقتصادي.. والأمور السابقة ليست لتفويت الفرصة علي دول أخري ولكنها من صميم الوصول إلي تماسك الجبهة الداخلية وشحذ همم المصريين للمشاركة في عملية إعادة البناء الدائرة علي قدم وساق رغم هوس ودموية المتطرفين وداعميهم.
كما أن الجهود السابقة لن تستقيم دون تفعيل القانون وسرعة الحسم في القضايا التي تهدد السلم والأمن الاجتماعيين، ومن الأمثلة علي القضايا التي يمكن التحرك فيها بشكل سريع مسألة مراجعة ما ينشر علي مواقع التواصل الاجتماعي من محتوي يدعو إلي العنف والقتل، ولا مانع أن ينظر القضاء العسكري في تلك القضايا لأنها تمثل تهديدا للأمن القومي والجبهة الداخلية، ولعل الخطوة الأخيرة من حكومة المهندس إبراهيم محلب في هذا الاتجاه بتعديل القوانين المتعلقة بالأمن القومي تشكل تطورا في الاتجاه الصحيح.
صفقة المقاتلات الفرنسية «رافال».. المغزى والمعنى
خطوة توقيع اتفاق شراء 24 مقاتلة فرنسية من طراز رافال الاثنين الماضى والتي جرت مراسم التوقيع النهائي عليها في القاهرة بحضور وزير الدفاع الفرنسي، تمثل منعطفا بارزا في سعي مصر إلي تنويع مصادر التسليح سواء كانت مصر تعتمد في إتمام صفقات جديدة إلي تعاون مثمر مع فرنسا أو روسيا أو دول أخري صديقة، فتلك خطوة حقيقية علي طريق إنهاء الهيمنة والتبعية لدولة بعينها في واردات السلاح وهو أمر لا يختلف علي أهميته كل من يعي خطورة اللحظة الراهنة وضرورة تحرير القرار السياسي المصري، ومصر تنطلق في علاقاتها الدولية من معطيات جديدة تقوم علي أسس التعاون وحماية المصالح والاحترام المتبادل وهو ما أكده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في زيارته الأخيرة للقاهرة، فقد تسببت السياسة الأمريكية التي لا تراعي المصالح الوطنية المصرية في تلك المرحلة إلي تباعد في الرؤي بين البلدين رغم العلاقات الاستراتيجية بينهما.. فغباء تلك السياسة هو ما جعل الرئيس باراك أوباما يوشك أن يسلم الرئاسة إلي رئيس جديد بعد قرابة عامين «بدون مصر»، وهو ما سبق أن حدث مع الرئيس السابق جورج دبليو بوش بعد سلسلة أخطاء كارثية في الشرق الأوسط حاول من خلالها دفع مصر إلي تبني موقف مؤيد للولايات المتحدة علي طول الخط إلا أن مؤسسات الدولة المصرية الراسخة كان لها رأي آخر رغم الضغوط، وهو ما لا يسمح الحكم الحالي بقبوله أو التفكير فيه، خاصة بعد أن تباعدت المصالح فيما يخص الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط واستمرار واشنطن في تبني سياسات تنحاز إلي جماعات الإسلام السياسي التي فشلت جماهيريا ولم يعد الشعب يقبل بعودتها إلي ممارسة لعبة خلط السياسة بالدين مجددا. الرؤية الأمريكية للمصالح المشتركة مازالت رهينة لأفكار بعض مراكز الأبحاث المؤثرة في صناعة القرار في واشنطن رغم كل التحولات الكبري التي جرت في مصر بعد الثورة الشعبية في 30 يونيو.
من ناحية أخري، يخطئ من يعتقد أن التطور في العلاقات مع روسيا وصفقة الأسلحة الفرنسية هو ارتداد للمرحلة الناصرية (العلاقات مع الاتحاد السوفيتي السابق ومع الحنرال الفرنسي شارل ديجول)، لأن الظروف قد تغيرت كثيرا دوليا وإقليميا ولم تعد فكرة قيام تكتلات أو أحلاف ضيقة تثير الاهتمام مثلما كان الحال في زمن الحرب الباردة. ومن الأساس السابق، تكون الأفكار الأمريكية القديمة عن العلاقة مع مصر خاطئة ولا تعبر عن واقع وجود سلطة وطنية منتخبة تعمل بناء علي أسس وأهداف لا يقدرها الجانب الأمريكي ولا يعطيها حق قدرها، وفي مقدمة تلك الأسس إنهاء التبعية وإقامة علاقات متوازنة مع كل دول العالم أساسها المصلحة الوطنية المصرية ولم يفهم القائمون علي صناعة القرار في واشنطن مغزي رفض المصريين للسياسات الأمريكية ورفع صور الرئيس الأمريكي والسفيرة السابقة وعليهما علامة الرفض وعبارات قاسية في حق السياسة الأمريكية في ميادين مصر في 30 يونيو، وفي المقابل رفع المصريون صور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورحبوا به ترحيبا تاريخيا في زيارته الأخيرة. أن الهدف من الصفقة الفرنسية هو دعم التعاون لصالح الاستقرار والأمن والسلام ورسالة إلي العالم عن ضرورة الوقوف جنبا إلي جنب في تلك المرحلة الاستثنائية وغير المسبوقة التي يواجه فيها العالم وليس فقط شعوب المنطقة إرهابا من نوع وحشي وبربري يمكن أن نطلق علي فاعليه ومجرميه «مغول العصر». للأسف، مواقف الولايات المتحدة ودول غربية أخري تبدو متخاذلة في مواجهة إرهاب ظاهر للعين ويترعرع أمام أعينهم؟.
وفي تلك الظروف الحرجة والمصيرية يظهر الأصدقاء والحلفاء الحقيقيون ويتحقق التقارب بما يخدم المصلحة الوطنية التي لا تقبل المساومة.