ناجح ابراهيم
العقيد أ. ح. عاصم صبرى.. وداعاً وسلاماً
تزرع حوادث الطرق يومياً الألم فى القلوب والدموع فى العيون واليتم للأطفال وتزيد الثكالى والأرامل مع حصدها لعشرات الأرواح.. إنها تعصر قلوبنا غماً على أحبة فقدناهم، وتملأ بيوت المصريين بين الحين والآخر بالنواح والصراخ.
وكان ضمن ضحاياها الصديق العقيد أ. ح. عاصم صبرى الذى كان نموذجاً فريداً فى العلم والخلق والتدين والفضل والكرم والرجولة.. والحاصل على شهادات عسكرية علمية كبرى رغم شبابه.. فقد حصل على ماجستير العلوم العسكرية من كلية القادة والأركان والدكتوراه من كلية الحرب العليا وزمالة أكاديمية ناصر العسكرية.
لقد ورث حب العلم من أبيه العلامة الشيخ صبرى عبداللطيف، أبرز علماء «المطاعنة» والأول على كلية أصول الدين بامتياز مع مرتبة الشرف، ولولا رفضه للتدريس بالجامعة وإيثاره الدعوة ببلدته لأصبح من أكبر علماء مصر.. وقد كان من تلاميذه أ. د. عبدالفتاح العوارى عميد أصول الدين وهو من أولاد عمومتهم. والصعيد يقتل الملكات، وهو الذى قتل ملكة وعلوم الشيخ صبرى الذى كان يعد من أبرز العلماء.. حتى إن تلميذه أ. سعد المطعنى سجل معه حلقة لإذاعة القرآن الكريم من المسجد العمرى تحدث فيها ثلث ساعة.. وإذا بالمكالمات التليفونية تنهال على الإذاعة طلباً وسؤالاً عن الشيخ صبرى فيخبرهم المطعنى أنه لا يخرج من بلدته.
لقد تحمل الشيخ صبرى وأسرته مسئولية الدعوة فى المنطقة كلها.. وكان والده عالماً كذلك وله مؤلفات وشروح بعضها لم يطبع.
والمطاعنة كانت تنافس جرجا وطهطا قديماً فى العلم والفقه واللغة والأدب.. ويكفى أن المطاعنة هى التى خرجت الحنجرة الذهبية الشيخ عبدالباسط عبدالصمد الذى تلا القرآن بصوته الملائكى الرائع فى العالم كله، وأسلم عشرات الآلاف على يديه، وقرأ القرآن فى المسجد الكبير فى جاكارتا من العشاء حتى الفجر.. وقرأ القرآن فى الهند بحضور «أنديرا غاندى وأركان حكمها» تستمع إليه فى خشوع.. وقرأه فى مجلس النواب الفرنسى.
«الناس معادن كمعادن الذهب والفضة».. هكذا قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقد ورث العقيد «عاصم» عناصر الذهب والفضة والكرم والتقوى والرجولة والعلم من والده العالم الكبير، ومن جده أشهر علماء المطاعنة، ومن جد جده الذى كان عضواً بمجلس النواب، ومن جده الآخر أحمد فراج أول وزير خارجية لمصر بعد ثورة 23 يوليو.
الناس معادن حقاً، منها الذهب والفضة والماس، وعلى ذوى المعادن الثمينة أن يشكروا الله على ذلك وأن يحافظوا على نقاء معادنهم وأسرهم بالتقوى والصلاح والعلم والكرم والجود والإحسان إلى الخلق ومصاهرة الصالحين ومنابذة الفاسدين.
وهناك معادن من الناس أشبه بالزرنيخ والرصاص وهى معادن سيئة يكثر فيها الخبث وتنتشر فيها الرشوة وتسعد بالفساد والإفساد وتفرح بالبغى والظلم. وقد حدثنى أصدقاء العقيد عاصم عن أنه ظل جاداً ورجلاً طوال حياته ولم يتحدث كغيره من الشباب عن البنات وتوافه المراهقين ولم يبخل أو يجبن فى مواقف البذل ولم يأخذ مقابلاً لمعروف أسداه لأحد؛ فقد اقتفى سيرة أبيه وجده. فقد كانت هناك سيدة عجوز صدر عليها حكم نهائى لتوقيعها على «إيصالات أمانة» فلما علم بذلك دفع المبلغ وأنقذها من سجن محقق.. وكان صناع الخير من أقاربه كلما طالبوه بالمساهمة فى أى مشروع خيرى تبرع مرات ومرات.. وكان يقول لأقاربه: إن أسرتى تعيش فى بلدتى وهذا يجعل تكاليف الحياة يسيرة وكل زيادات مرتبى أصنع بها الخير للفقراء.
ولما توفى علم بعض الأيتام فى بلدته أنه الذى كان ينفق عليهم.. فقد كان يجعل وسيطاً بينه وبين الفقراء من أقاربه دفعاً للرياء وطلباً للزهد ورغبة فى أن يكون من الأتقياء الأخفياء.. وكانت إحدى اليتيمات على موعد لشراء شىء على نفقته فطلبت أحد أقاربه الذين كان يوسطهم فى ذلك فبكى وهو فى جنازته قائلاً لها: إن الذى كان ينفق عليكم مات اليوم.. فالمرحوم عاصم سليل أسرة كريمة أنفقت معظم أرضها على مشاريع الخير فجده هو الذى تبرع وبنى مسجد العمرى وبيت الإمام الملحق به.
وقد كانت آخر كلماته على صفحته بـ«فيس بوك»: «اللهم ارزقنى الشهادة فى سبيل الله والوطن». وكتب: «تفوح دماء الشهداء عطراً ذكياً ينادى همة الشباب بالنعيم الذى يعيشون فيه».
لقد أراد رسول الله أن يغير فكر بعض الصحابة الذين كانوا يقصرون الشهادة على الذين يقتلون فى الحرب، فقال لهم الرسول (صلى الله عليه وسلم): «إذن شهداء أمتى لقليل»، ثم ذكر أصنافاً أخرى من الشهداء مثل «المبطون والغريق وصاحب الهدم والمطعون، أى الذى أصابه الطاعون، إلخ».
وقد تأملت الحديث قائلاً لنفسى: لو كانت السيارات والطائرات أيام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأضافهم للشهداء.. وهل الذى يتهدم بيته أو يتهدم البنيان فوق رأسه يلاقى هولاً أكثر من الذى يموت فى حادث سيارة أو طائرة ويلاقى وأسرته الأهوال. لقد فكرت فى الأمر مراراً ووجدت أن هذا العدد الذى ذكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الحديث يعد أمثلة وليست للحصر والقصر، ويصح القياس عليها ولا تعد أمراً توقيفياً، وقد وافقنى فى اجتهادى علماء وفقهاء كثيرون.
لقد جربت أسرتى منذ سنوات بعيدة آلام الوفاة فى الحوادث، وكان ذلك مع شقيقى الأكبر وكنت يومها فى الرابعة الابتدائية ولكنى لا أنسى هول هذا اليوم حتى الآن.
إن أكثر ما يحزننى فى هذه الدنيا اختفاء معادن الذهب والفضة واحداً تلو الآخر وكأنهم قد ضاقوا بدنيانا أو عجزوا عن التكيف مع مفاسدها وأهوائها.. لقد أراد العقيد عاصم أن يلحق بأبيه الذى علم «المطاعنة» كلها الدين والصدع بالحق وكان إذا تكلم أسمع، وكان ولياً من أولياء الله الأخفياء فقد اعتمر مرة وكان بصحبته الإعلامى سعد المطعنى الذى عجب لتأخره عن زيارة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقال له الشيخ «يا سعد يا بنى.. الدخول على الرسول وهو ميت كالدخول عليه وهو حى، ولا بد من التهيؤ والاستعداد القلبى لذلك». ثم توضأ ولبس أجمل ما عنده وتعطر وأخذ يقرأ القرآن ثم قرأ «بردة البوصيرى» بتأثر شديد، وبعض الأشعار الأخرى فى مدح النبى.. حتى إذا وقف بين يديه ظل يبكى ويرتجف ويرتعد حتى مضى.
لقد لقى العقيد عاصم حتفه وهو عائد إلى وحدته العسكرية فى طريق الصعيد الغربى عند البلينا فى طريق فردى غير مزدوج فصدمته من الأمام سيارة نقل واستشهد ومعه الجندى السائق.. ألم يأن للصعيد أن يهتم به أحد.. ألم يأن للصعيد أن يكون له طريق آدمى جميل ومزدوج وله عدة حارات مثل طريق مصر إسكندرية الصحراوى.. ألم يأن للصعايدة أن يستريحوا ولو قليلاً.. ألا تكفى كل هذه الدماء على طرقه أن تذكر بمآسى البؤساء فى الصعيد؟