هذه هى الحلقة (٥) فى دراستنا بعنوان «غروب الجماعة»، وتتناول قضية مهمة فى فكر الجماعات الإسلامية وعند الإخوان، أقصد بها قضية الولاء، وهى إحدى الإشكاليات التى التبس فهمها لدى الكثيرين داخل الحركة الإسلامية، ومن ثم تحتاج إلى توضيح وبيان، والولاء يفتح ويكسر، فإذا فتح كان اسم مصدر وإذا كسر كان مصدراً مقيساً من والاه موالاة وولاء، وأصله من فعل ولى إذا قرب ودنا، ومصدره ولى (بسكون اللام) كما فى قول علقمة:
يكلفنى ليلى وقد شط وليها وعادت عواد بيننا وخطوب
واسم الفاعل منه: الولى، وله معانٍ كثيرة، منها: المحب، والصديق، والنصير، من ذلك قوله تعالى: «إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا» (المائدة: ٥٥).. وفى معناه: المولى (بسكون الواو) ويطلق على واحد وعشرين معنى، منها: الرب (جل وعلا)، والمالك، والمعتق، والقريب، والجار، والحليف، والعم، والشريك، والنزيل، والناصر، والمنعم، والمنعم عليه، والمحب، والتابع.. إلخ، كما جاء فى قوله سبحانه: «وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير» (الأنفال: ٤٠)، وقوله: «يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير» (الحج: ١٣)، وقوله: «واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير» (الحج: ٧٨).. إلخ.. والولاء بمعنى: القرب، والقرابة، والمحبة.. والموالاة ضد المعاداة.. والولاية (بالفتح والكسر) بمعنى النصرة، كما فى قوله تعالى: «هنالك الولاية لله الحق هو خير ثواباً وخير عقباً» (الكهف: ٤٤)، أى يوم القيامة، ولدى الإنسان ولاءات كثيرة ومتعددة، وليست ولاء واحداً، لكن أعظمها على الإطلاق هو ولاؤه لله، واهب الحياة والوجود، مالك الأرض والسماوات، وإليه يرجع الأمر كله، يقول تعالى: «ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون» (هود: ١٢٣)، ومن الولاء لله تعالى تتفرع كل الولاءات، أو هكذا يجب أن يكون، وفى هذا نجد حشداً من آيات التنزيل العزيز تتحدث عن بعض هذه الولاءات، مثال ذلك قوله جل وعلا: «ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون» (المائدة: ٥٦)، وقوله أيضاً: «لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون» (الأنعام: ١٢٧)، وقوله كذلك: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم» (المائدة: ٥١)، وهذا موقف خاص بالذين يعادون الدين وأهله، يوضح هذا المعنى قوله: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء» (المائدة: ٥٧)، أما الذين لا يحاربون المسلمين ولا يعادونهم، بل يتعايشون معهم بالحسنى، فهؤلاء لا بد من البر بهم والتعامل معهم بالقسط والعدل، كما جاء فى قوله تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون» (الممتحنة: ٨-٩).
نخلص مما سبق إلى أن الإنسان يكون له ولاء لأسرته الصغيرة، وعائلته الكبيرة، كما يكون له ولاء لإخوانه فى الدين والمذهب والوطن والعروبة والإنسانية، وهكذا، بالمثل -وعلى التوازى- يكون للإنسان ولاء لحجرته الخاصة التى يبيت فيها، وبيته الذى يسكنه، وحيه الذى يعيش فيه، وقريته أو مدينته التى تحتويه، ووطنه الذى ينتمى إليه، ووطنه العربى الذى يعبر عن لغته وثقافته، ووطنه الإسلامى الكبير، ووطنه الإنسانى الجامع، وهكذا، ولا ينبغى أن تتناقض هذه الولاءات مع بعضها، أو يقصى أحدها الآخر، هى دوائر، يحيط بعضها ببعض أو يتداخل ويتشابك بعضها مع البعض الآخر، وهكذا، فأنت تحب أسرتك الصغيرة، وعائلتك الكبيرة، وتحب فى الوقت ذاته إخوانك فى الدين والمذهب، كما تحب إخوانك فى الوطن -بغض النظر عن دينهم أو مذهبهم- وتحب إخوانك العرب والمسلمين -أينما كانوا- وتحب إخوانك فى الإنسانية، القيمة الأولى التى يجب أن تكون مهيمنة ولها الأولوية هى إقامة العدل بين الناس جميعاً، يستوى فى ذلك المسلم وغير المسلم، المؤمن والكافر، القريب والغريب، العربى والعجمى. يقول تعالى: «وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى» (الأنعام: ١٥٢)، القيمة الثانية هى التعايش والتعاون والتنافس بين الجميع من أجل الخير، للإنسان والأوطان، القيمة الثالثة الحفاظ على الحقوق والحريات، مثل الحق فى التملك، والسفر، والانتقال، والتعلم، والصحة، والكرامة.. إلخ، والحرية فى العقيدة، والانتماء الفكرى والسياسى، والنقد، والتعبير.. إلخ.
يقول العلامة عبدالله بن بيه فى كتابه (صناعة الفتوى): إنه لا بد «من إجراء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على مجاريها وفهمها فى سياقها لتتضامن مع الآيات الأخرى التى تحث على التضامن مع بقية البشرية كلها فى أوجه الخير والتعاون معها فى مواجهة الشر، كما يدل عليه حديث حلف الفضول، وحديث فديك: «يا فديك أقم الصلاة وآت الزكاة واهجر السوء واسكن من أرض قومك حيث شئت»، ثم يقول: «أما تنزيل آيات وأحاديث النصر والولاية والحب على هذا المصطلح (يقصد الولاء والبراء)، وجعله مصطلحاً إقصائياً يطرد كل علاقة مع الغير، فهو غير سديد، لأنه يهمل مضامين آيات وأحاديث أخرى تحث على البر، والإقساط، والقسط، والتعاون على البر والتقوى مع كل الناس، وقد نسب الأنبياء إلى قومهم: (وكذب به قومك وهو الحق) (الأنعام: ٦٦)، (وإلى عاد أخاهم هودا) (هود: ٥٠)، (وإلى ثمود أخاهم صالحاً) (هود: ٦١)، وتحكى حبهم لأقاربهم من غير تعنيت ولا تبكيت: (إنك لا تهدى من أحببت) (القصص: ٥٦)، وحبهم لبلادهم واشتياقهم لها كما فى حديث أصيل، وهذا الانتماء إلى الأقوام وحب الديار والأوطان هو ضرب من الولاء»، إن حبك لقريتك أو مدينتك هو جزء من محبتك لوطنك مصر، وهذا بدوره جزء من محبتك لوطنك العربى الكبير، وهكذا، كل منهم يصب فى الآخر، بل يدعمه ويقويه، ولا يقول أحد إن محبتك لوطنك العربى تخصم من محبتك لوطنك مصر، بل إن دفاعك عن وطنك مصر إذا ما تعرض للاعتداء -فضلاً عن أنه واجب أصيل- هو فى الواقع دفاع عن وطنك العربى، المطلوب منك أن تنتصر للحق والعدل أينما وحيثما كان، من هنا كان انتصار مصر -ولا يزال- للشعب الفلسطينى الذى احتلت أرضه واستبيحت مقدساته، ومن هنا أيضاً، كان وقوف مصر مع العراق ووحدته عندما تعرض للغزو والتفكيك والنهب والسلب من قبل قوات التحالف بقيادة أمريكا، ومن هنا كذلك، كان وقوف مصر مع وحدة الشعب والتراب السورى، ضد المؤامرات الخارجية والداخلية على السواء.