نصف الدنيا
نوال مصطفى
لماذا الزمن الأخير؟
سألونى فى معرض القاهرة الدولى للكتاب وبالتحديد فى الندوة المخصصة لمناقشة روايتى «الزمن الأخير» : لماذا الزمن الأخير ؟ ما الذى كنت تقصدينه بهذا العنوان ؟ أجبت : إنها فكرة الزمن التى طالما شغلت الأدباء والمفكرين منذ بدء الخليقة وحتى نهاية الكون . اللحظة الحالية التى نعيشها ، ولا يمكن استرجاعها مرة أخرى إلا فى ذاكرتنا . والقبض على تلك اللحظة كان هو هاجس الشخصية المحورية للرواية «شهد» ، هذه المرأة التى كان لمواصفاتها الشكلية والروحية نصيب كبير من اسمها .

فى «الزمن الأخير» أضئ نورا أحمر أمام كل الذين يعتبرون الحياة أياما تشبه بعضها، ويفرطون فى الحاضر لحساب مستقبل لا يعلم إلا الله مداه، وما يحمله من مفاجآت وتقلبات .إليهم تقول الرواية :انتبهوا أيها السادة والسيدات أنه زمنكم الأخير .ليس بالمعنى التشاؤمى للجملة، بل على العكس، بالمعنى الذى يحتفى بالحياة ويجلها .

كانت تلك هى الأزمة التى عاشتها «شهد» وهى ترى والدتها، السيدة القوية والتى وصفتها ب«الصخرة» إشارة إلى صلابتها أمام حياة طويلة لم تكن سهلة، تتحول إلى إنسانة بلا تاريخ، عندما تم مسح الزهايمر ذاكرتها كما يمسح مفتاح «مسح» أو «delete» الكلام المكتوب على الكيبورد .

كانت «شهد» تهاب أمها لفرط قوة شخصيتها، فقد كانت الأم والأب فى آن معا بعدما ترملت للمرة الثانية، وأصبح عليها أن تربى ثمانية أطفال من زيجتين متتاليتين . لذلك لم يكن سهلا على الابنة أن ترى أمها معتقلة فى سجن النسيان، تصدر أصواتا غير مفهومة فى محاولة مستحيلة للتعبير عما تريد .كانت «شهد» تتمزق وهى ترى أمها أسيرة آفة النسيان، وعندما ماتت بعد ثلاث سنوات من العذاب، وجدت نفسها مهووسة بفكرة تسجيل وتوثيق كل لحظة فى حياتها السابقة والحالية . مشهد جلوسها أمام خزانة أوراقها وذكرياتها ، تخرج كل صورة قديمة وشريط فيديو يسجل حدثا فى حياتها هى وأولادها وأخواتها وأصدقائها . تعكف على هذا العمل وكأنه مشروع عليها إنجازه، فيشك زوجها فى قواها العقلية، ويخيل إليه أنها اصيبت بمرض نفسى بسبب وفاة أمها، واستقالتها من البنك الذى تعمل به .

يقول الشاعر آدم فتحى عن الرواية : هكذا تقترح الرواية لعبتها على القارئ: قوّةٌ تُستمدّ من الضعف البشريّ المُقاوم. وماضٍ يُستعاد لا للإقامة فيه بل لتحصين الحاضر وتأمين المستقبل .

هل تُصاب الذاكرة بعوامل التعرية وتتآكل كما تتآكل قمم الصخور والجبال؟ «هكذا تسأل شهد في بداية الرواية» . «هل تتزوّجينني»؟ هكذا يسألها طارق في نهاية الرواية . علامتا استفهام هما طرفا دائرة مفتوحة بين الجسد وغوايته والروح وتطلّعاتها، وكأنّنا أمام كيانين لا يتعرّيان إلاّ ليبحثا عن «لباس» لهما في الحكي أي في الحياة، دون أن يعرفا هل العري في النسيان أم في الاحتماء بالذاكرة..

هي إذنْ رواية الصراع مع الزمن، والإصرار على الحلم بالرغم عن انكسار الأحلام، والغوص في دهاليز النفس البشريّة. وهي أيضًا رواية الصراع بين جيل وجيل. جيل شهد وجيل ابنتها سارة. جيل الشات والإيبود والهوس الاستهلاكيّ، لكنّه أيضًا الجيل الذي يوقظه «بيت العيلة» من شروده، فإذا هو يفكّر ويخوض في مسائل الفنّ والأدب ويحرق علم إسرائيل ويتذكّر صبرا وشاتيلا، ويحلم بتأسيس مشاريع «مبتكرة وفريدة، والأهمّ من هذا كلّه، تحمل اسم وروح وتاريخ مصر». (ص178).

ذلك أنّها رواية أفراد يتحمّل كلّ منهم أعباء سيرته الفرديّة، لكنّنا من خلف وبما يشبه الهمس والإيحاء، نتابع سيرة بلد. ألا تعيش الدول العربيّة «أزمة الخمسين» هي أيضًا بشكل أو بآخر، في تمزّقها بين أحلام العشرين (أحلام الاستقلال) وإحباط الواقع ومستقبل تتهدّده المزالق من كلّ جانب؟ .

هل أجبت على السؤال الذى طرحته فى بداية المقال : لماذا الزمن الأخير ؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف