الدوائر المفرغة لا تسمن أو تغنى من جوع. والسهام المتراشقة والمتبادلة لا تصيب إلا بالجروح. والروح الاتكالية وشماعة الانهزامية لا تؤديان إلا إلى مجتمعات، الفوضى سمتها والانهيار مصيرها. وليست هناك دائرة أعتى أو أفظع أو أبشع من دائرة المؤامرة التى طوقتنا حتى أهلكتنا. فمن عنصر فعال فى مناهج التاريخ والجغرافيا والعربى لتبرير الانهيارات وتعليل السقطات منذ عهود غابرة، وحتى عصور معاصرة، إلى حجة أنظمة سابقة لإحكام السطوة والإمعان فى الغفلة، صدّعت رؤوسنا وأنّت قلوبنا من حديث المؤامرة. وباتت المؤامرة «لبانة» فى فم الأبواق الناطقة باسمه، فتحولت إلى كائن حى يتعلق البعض بتلابيبه بديلاً عن لبن النهضة المسكوب أو أمل التقدُّم المغدور، ويسخر البعض الآخر من تقاسيمه باعتباره «حجة البليد»، وفريق ثالث لم يكن يعنيه هذا أو ذاك، لكنه استيقظ فى العام الـ15 من الألفية الثالثة، ليجد نفسه غارقاً فى ثورات «ربيعية» يائسة (وفى أقوال أخرى «بائسة»)، وتفاصيل حياته اليومية متحولة من خانة الجمود والركود إلى خانة السقوط والخسوف. وحين سأل عن الأسباب، أخبروه أنها مؤامرة.. المؤامرة -أو بالأحرى المؤامرات الكثيرة- التى تحيط بمصر والمصريين هذه الآونة أمر واقع لا يمكن إنكاره، لكنها فى الوقت نفسه لا يمكن أن تكون شماعة مزمنة ومعضلة معرقلة لكل محاولة نهوض أو خروج من خانة المفعول به. وحتى لو كان مفهومنا عن السياسة ما زال يتسم بمثالية رهيبة تجعلنا نعتقد أن من يُقرر تقديم منح مالية لنا إنما يفعل ذلك لسواد عيوننا، أو إن الروس أحبونا لأن الأمريكان كرهونا، أو أن «عين أوروبا صابتنا، لكن رب العرش نجانا»، فإن هذا لا يعنى أبداً أن نحصل على إجازة تفرّغ من أعمالنا لنوجه السباب والشتائم إلى من يتآمرون ضدنا، أو أن نعتقد أن المؤامرة أشبه بـ«العمل» الذى يمكن فكه وإبطال مفعوله كلما زودنا عيار السخرية ومقدار المعايرة. لكن للأسف الشديد، فإن المؤامرات لا تتبدد فى الهواء بفعل الشتم أو تحت وطأة التقريع، بل العكس هو الصحيح. فما يصل إلى العالم من مفاهيمنا وتفسيراتنا وأساليبنا فى الرد على ما نتعرّض له من أزمات أو ما نمر به من مشكلات جميعها لا يخرج عن إطار المؤامرات يجلب لنا المزيد منها.
وفى ما يلى نماذج تعد نقطة فى بحر مما يُكتب فى صحف أمريكية وبريطانية وفرنسية حول مفهوم المؤامرة فى الفكر المصرى: «أفيون مصر: مذاق مختلف لنظريات مصر عن المؤامرة»، «المصريون يغرقون فى حديث المؤامرة، بينما السياح يحزمون أمتعتهم ويرحلون»، «عاصمة العالم لنظريات المؤامرة»، «الإعلام المصرى يغوص فى أعماق المؤامرات فى أعقاب سقوط الطائرة الروسية»، «الإعلام المصرى: تقارير ضلوع داعش فى سقوط الطائرة (مؤامرة) غريبة فى نظر المصريين». ليس هذا فقط، بل إن الكثير من أطروحات الدكتوراه وأبحاث المراكز البحثية تدور وتتطرّق إلى أسباب ولهنا بالمؤامرة. وحيث إن المؤامرة فى العلوم السياسية ليست حراماً أو عيباً، بل يمكن اعتبارها ميزة وشطارة، فإن علومنا السياسية سلمت هى الأخرى للمؤامرة مكتفية بتدريسها فى الجامعات والتشبث بها فى الإعلام دون روشتة علاجية أو نظرية علمية لكيفية الخروج الخروج من براثنها.
والحق يقال إن أكبر مؤامرة يتعرّض لها المصريون هى تآمر المصريين على أنفسهم. الجميع بات على يقين اليوم بأن مصر لن ترتقى أو تتقدم أو تُكتب لها النجاة مما تتعرّض له من «مؤامرات» إلا بالعمل الحقيقى والتخطيط الفعلى وإعادة زرع الضمير المنزوع من الملايين. ورغم ذلك، فإن الغالبية لا تبذل جهداً لتحويل دفة الفشل جهة النجاح. وبالطبع فإن الإدارة السياسية تتحمّل جانباً من غرق الشعب فى نظرية المؤامرة، سواء لسكوتها على موجات التغييب والتجهيل التى تغتال عقولنا ليلاً ونهاراً على شاشات الفضائيات، التى وصلت فى بعض الأحيان إلى تحميل «المجلس الأعلى لإدارة شئون العالم» مغبة الأحداث، لا بإسكاتها، لكن باعتناق المكاشفة والتشبث بالمصارحة.
والأهم من كل ذلك، استمرار اعتبار القانون وتطبيقه أموراً اختيارية وربما موسمية. المستثمر الذى يأبى الاستثمار فى مصر لا يتآمر عليها، لكن مصر تتآمر عليه حين يجد القيادة فى شوارعها أشبه بلعبة السيارات المتصادمة تحت مسمع ومرأى من رجال المرور. والسائح الذى يفضّل عدم الذهاب إلى القاهرة فى طريقه إلى الأقصر وأسوان لا يتآمر عليها، بل تتآمر عليه مصر التى تترك تلال القمامة تنمو وترتع، ليس فى أحيائها الشعبية فحسب، بل فى أرقى شوارعها. والزائر الذى يغرّد من حوارى المدينة عن عجائب لم يتوقعها ولو على المريخ، لا يتآمر علينا، بل نتآمر نحن عليه، حيث التكاتك فى صراع من أجل التدمير الشامل، وهلم جرا.
ما جرى ويجرى وسيجرى فى مصر من مؤامرات لن يحله إعلام مجلجل يهدئ الناس عبر ترويعهم بالمؤامرات، ولن يخففه غياب معلومات وضبابية رؤى، الغرض منهما عدم تخويف الناس أو إقلاقهم. المؤامرات التى تحاك ضد مصر ستنتقل من نجاح إلى نجاح، لأننا نساعدها على ذلك وندعمها بتسليمنا المستمر لها ورفضنا الدائم لأن ننهض بأنفسنا.
الحقيقة أن المؤامرة -رغم أنها حقيقة واقعة- لكنها مريحة لطيفة ظريفة، فهى تبرر السقطات، وتبرّئ الإخفاقات، وتعلل الأزمات، وتجعل منا مفعولاً به مزمناً، ليس عليه سوى تلقى أفعال الفاعل، حيث النصب مستمر، والخنوع لا يكل، والاستسهال لا يمل. ويظل أخطر أنواع المؤامرات هو النوع المعروف بـ«منا فينا».