الأخبار
فاطمة قنديل
«يوتيرن»
في حين تعتبر المرأة السيارة وسيلة مواصلات آمنة، تحميها من «بلاوي» الطريق، يعتبرها الرجال وسيلة لممارسة «التنافس الذكوري»

منذ أيام وأنا أرتب مكتبتي، استعدادا لبداية العام الجامعي، وقع في يدي كتاب منزوع الغلاف بورق أصفر، عنوانه: «آداب المرور»، لم أستطع أن أمنع نفسي من الابتسام قبل أن ألقيه جانبا، فما حاجتي الفعلية لتعلم مجموعة من الأفكار النظرية ستثبت فشلها حتما ماإن تُختبر علي أرض الواقع؟! كنت قد نجوت قبلها بأيام من موت مؤكد علي الدائري حين فوجئت «بتوكتوك» يتهادي عكس الاتجاه، أقصي اليسار، وقد أطفأ أنواره! علمتني تجربة القيادة العسيرة في شوارع المحروسة أنها ليست «فن وذوق» كما كان يردد آباؤنا، وإنما هي القدرة علي ملء المسافات» المفترضة قانونا» بين سيارة وأخري، فماإن تلتزم بتلك المسافة المطلوبة للأمان حتي تجد من انحرف من يمينك»بغرزة»، ناظرا إليك شزرا، ومالئا المسافة، ليلتصق بمن أمامك وبك، حاول أيضا أن تعطي إشارة للمرور إلي اليمين أو اليسار وستجد -حتما- من كان يسير وراءك، متهاديا، بعدة أمتار وقد أطلق بوق سيارته و»داس بنزين» كي ينبهك إلي أن المسافة الممتدة أمامه هي «أملاكه» وليس مسموحا لك باقتحامها وتجاوز «الحارة» المرورية التي أسعدك الحظ بها، إلا إذا أخرجت ذراعك من نافذة السيارة، ساعتها فقط قد يسمح لك بالانحراف، وهو ماأسمته صديقة لي: «سلطة الذراع»! يشعر النساء عادة بضيق شديد حين تلتصق سيارة رجل بسيارة امرأة، ولأن السائق الماهر-مثلي! لايقر بتعلمه السواقة إلا حين يشعر أن سيارته صارت كجسده، فقد بررتُ الأمر لصديقاتي بأن النساء يشعرن في التصاق السيارات بشبهة «تحرش»! الرجال يختلفون عن النساء في العلاقة بالسيارات، ففي حين تعتبر المرأة السيارة وسيلة مواصلات آمنة، تحميها من «بلاوي» الطريق، يعتبرها الرجال وسيلة لممارسة «التنافس الذكوري»، من «غرز» و»تخميس» وخلافه، كلاهما يعتبر السيارة جسده، لكن الجسد الناشد للأمان، يختلف عن الجسد الذي يريد أن يفهمك أن سيارته طالعة لتوها من «الجيم»، ويمكنه «ترقيص» عضلاتها! وأن بإمكانه أن يلزم أية امرأة،خاصة،علي ألا تتجاوز حدودها معه، وإذا كان الزحام والشارع وامتلاك السيارات قد ألغي، ظاهريا، التراتب بين الرجل والمرأة، فلابد من تذكيرها؛ أولا بخيبتها، وثانيا بقدرته علي تلقينها دروسا إذا مانست نفسها وتساوت الرؤوس! عليها أن تلتزم دائما بدور من في «طور التعلم الأزلي»، منه، وإذا غامرت، نادرا، وأسرعت قليلا يوضع «تحديها» فورا تحت السيطرة. في مجتمعات كمجتمعاتنا يصبح الشارع- كما وصفته هنا- مرآة لطبيعة تبادل الأفكار أيضا، فلم أكن أهدف بالقطع، وحاشالله، أن أعطي الرجال درسا في القيادة، وإنما لأقدم نموذجا لعقلية الزحام وطريقة تناولها للأحداث، سواء علي مستوي الإعلام، أو مواقع التواصل، فماإن تحدث واقعة ما، سواء جليلة أو تافهة، تجد المسافة المطلوبة للرؤية وقد اكتظت بالتعليقات، والسخرية، والمداخلات، والسباب، والإحباط، حتي تلتصق السيارة، عفوا، الواقعة، بالأخري، لتمتلئ المسافات، والمتتبع الصبور للتعليقات، مثلي، يندهش من تفتق هذا الكم من التعليقات و»نمطيته» أيضا، وقدرته علي تحويل أي اصطدام بسيط إلي «مشاجرة»، تستلزم استدعاء أجهزة الدولة،وأخلاق الزحام تجعلك إما مستنفرا طاقات الإبداع فيه، كما يحدث في الثورات، أو في الأنظمة التي تستثمر طاقاتها البشرية، أو تجعلك تسلك الطريق العكسي، تماما «كالتوكتوك» الذي كاد أن يدهمني وأدهمه. أخلاق الزحام وعقله النمطي، سواء تبنتهما الدولة أو الأفراد، هي أيضا ما يبقيك في الحارة المرورية لأفكارك، لأن الفكرة السائرة، والسائدة، والفاسدة ستطلق أبواقها و»تدوس بنزين» لتقطع عليك «بعضلاتها» طريق مراجعة أفكارك،إذا كنت ثائرا، وسياساتك إذا كنت مسئولا،كي لاتنتقل بها يمينا أويسارا، ولأنك لاتستطع إخراج ذراعك من نافذة «عقلك»،دائما، ستظل الإشارة تبرق وتنطفئ في نفس المسار، لتقذف بك إلي أي «يوتيرن» هاتفا: «راجعين»،لتعاود طريقك القديم منذ أوله، ولتعاود الوقوف في الإشارات نفسها، وتعاود تلقي الخيانات نفسها،وتكرار الأخطاء نفسها، لتصل إلي «يوتيرن» جديد....وهكذا، وهكذا...
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف