تدور الأيام.. ولا ينفذ المشروع.. ويصبح نسيا منسيا إلي ان شاءت الاقدار ان التقي بالمهندس ماهر أباظة.. واسأل عن مصير الاتفاق النووي.. فقال إلي إن الرئيس مبارك طلب منه ألا يفاتحه في أمره ابدا!
في طريق عودته إلي القاهرة بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد.. هبطت طائرة الرئيس الراحل أنور السادات مطار "كولونيا".. لإجراء محادثات مع المستشار الألماني هيلموت شميت.. في العاصمة الألمانية القديمة "بون" وهبط من الطائرة الوفد الصحفي المرافق له يتقدمهم الأساتذة موسي صبري وأنيس منصور ومحسن محمد وعلي حمدي الجمال.. في الوقت الذي لم يكن أعلن فيه نبأ وفاة المطرب عبدالحليم حافظ.
وفي اليوم التالي تصدرت أنباء وفاة المطرب الكبير عناوين الصحف في بلدنا وجاء الخبر بوصول الرئيس السادات إلي ألمانيا علي مساحة تالية.. الأمر الذي أغضب الرئيس السادات.
بعد عودة الرئيس السادات إلي القاهرة بنحو اسبوع.. ضمني لقاء روتيني ضمن مجموعة من المراسلين الصحفيين.. أعضاء اتحاد الصحفيين الأجانب بالمستشار الألماني هيلموت شميت..
لم يكن اللقاء مخصصا لتناول أنباء الزيارة الخاطفة والمحادثات التي اجراها مع الرئيس السادات.. ولكن سؤالا عابرا من جانبي فتح الأبواب علي مصاريعها.. للعديد من الأسئلة.. من جانب عدد من الزملاء.. وتضمنت الاجابات.. التي جاءت علي لسان المستشار الألماني.. بسلسلة طويلة من التفاصيل التي لم انشرها.. وفقا للقاعدة المتبعة في مثل هذه اللقاءات.. وهي حظر النشر.. لا سيما فيما يتعلق بالعديد من التفاصيل التي رواها لي المستشار شميت بعد انتهاء اللقاء الذي يوصف عادة بأنه «OFF RECORD».
ماذا جري في اللقاء بين السادات وشميت.. بعد ساعات من عقد اتفاق كامب ديفيد.. وما السبب الذي يدعوني لفتح هذا الصندوق.. الآن؟
السبب هو المشكلات التي نعانيها هذه الأيام.. ابتداء من التعليم وحتي الحكم المحلي.. وغيرها..
قال المستشار شميت وهو يصافح الرئيس السادات بحرارة.
لقد حققت معجزة يا سيادة الرئيس... ان احدا في العالم لم يكن يتصور استعادتكم لسيناء.. وفتح الأبواب أمام حلول مشابهة مع الدول العربية الأخري.. قد حققت معجزة بكل المقاييس.. والمهم الآن هو ان تستطيع المحافظة علي السلام!
قال الرئيس السادات:
- انني لن استطيع للأسف الشديد المحافظة علي السلام.. الا إذا عاد السلام بعائد علي كل مواطن في مصر. نحن نواجه العديد من المشاكل والأوضاع المتردية وتفاقم هذه المشاكل التي نجمت علي سنوات حالة الحرب.. ووجود مليون شاب في الخدمة العسكرية.. سوف نبحث عن فرص عمل.. بعد سنوات طويلة من إعلان حالة الحرب التي استنزفت كافة مواردنا المحدودة.. ولم أكن استطيع الاستقرار في هذه الحالة.. ولم يكن أمامي سوي الحرب!
قال المستشار شميت:
- ان تحقيق السلام في الشرق الأوسط.. يخدم مصالح العالم وبالتالي فهو ليس مسئوليتك وحدك.. ان علي العالم المساهمة في دعم السلام في هذه المنطقة التي سادها التوتر والقلق لسنوات طويلة.. وعلينا ان نعد لمشروع اشبه بمشروع مارشال يحمل اسم "مشروع دعم السلام في الشرق الأوسط".. يتلقي المساهمات الدولية.. من الدول صاحبة المصلحة في تحقيق السلام وبالتالي نستطيع يا سيادة الرئيس تمويل المشروعات التنموية التي تساهم في وصول السلام لكل مواطن.. يعيش علي أرض مصر.. وازالة الآثار السلبية التي تفشت خلال سنوات المواجهة.
قال السادات.. إن لدينا جبالا من المشاكل.. ومن بينها مشكلة الطاقة.
في هذا اللقاء حصل السادات علي موافقة ألمانيا.. بتزويد مصر.. بأربعة مفاعلات نووية.. وسافر وفد ألماني من الخبراء إلي القاهرة.. لدراسة إمكانية تنفيذ المشروع.. وتفقد العديد من المواقع.. إلي ان تم الاتفاق علي ان موقع الضبعة هو أنسبها وقدم تقريرا تم رفعه إلي المستشار الألماني.
في هذه الاثناء شن رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجين حملة شرسة علي المستشار شميت.. وتصاعدت هذه الحملة في سلسلة طويلة من الاتهامات المتبادلة بين الطرفين.. أدت إلي وقوع انقسام داخل مجلس الوزراء الألماني.. وإلي انسحاب الحزب الليبرالي الذي كان يتزعمه وزير الخارجية هانز ديتريش جنشر.. من الائتلاف الحاكم.. مما أدي إلي سقوط الحكومة.. وتعرض شميت لحرب سياسية.. وبلا هوادة.. وهي تتقلب من خندق إلي خندق.. وتغوص بين لجيج الماضي النازي وبين مستنقعات الحاضر.. بلا تقدير للمواقف المعاصرة ولا تفكير في انهاء الخلاف بالعقل والحكمة.
المهم.. ان حكومة شميت باتت علي وشك السقوط.. وزوال السلطة.. ويبدو ان المستشار الألماني.. أراد قبل الرحيل.. ان يوجه لطمة لمناحم بيجين.. فكلف المسئولين بإعداد اتفاقية بين مصر وألمانيا.. بتزويد مصر بالمفاعلات النووية. علي وجه السرعة والاتصال بالجانب المصري.. لدعوة مسئول لتوقيع الاتفاق.
وبالفعل وصل المهندس ماهر أباظة وزير الكهرباء إلي العاصمة الألمانية القديمة.. وكنت في انتظاره بصحبة الدكتورة عائشة راتب سفيرة مصر في ألمانيا.. التي قالت له بعد التحية:
المستشار شميت في انتظارك!
اصيب الرجل بما يشبه الصدمة.. وقال انه لم يستأذن الرئيس في إجراء محادثات.. وانه جاء لتوقيع الاتفاق وليس إجراء محادثات سياسية.. وسألها:
لماذا لم تبلغيني بذلك.. وأنا في القاهرة؟
فقالت له: انني لم أكن أعلم بذلك سوي الآن!
واتجه الراحل ماهر أباظة نحوي يسألني.. عما إذا كنت قد ارسلت هذا الخبر للصحيفة التي بين يديك.. فقلت له انني لم أعلم إلا الآن.. فقال لي ارجوك لا تنشر الخبر قبل ان نستأذن الرئيس مبارك.
اختصار الكلام وقد أوشكت السطور علي النفاد.. اننا توجهنا من المطار إلي مبني المستشارية بعد ان تعهدت السفيرة.. بان اللقاء سيجري علي مسئوليتها.. وكان في انتظارنا المستشار شميت بكل الترحاب.. وقمت بتصوير اللقاء الذي استغرق نحو ربع الساعة.. انتقلنا بعده مباشرة إلي مبني وزارة الطاقة حيث تم توقيع الاتفاق.
وتدور الأيام.. ولا ينفذ المشروع.. ويصبح نسيا منسيا إلي ان شاءت الاقدار ان التقي بالمهندس ماهر أباظة.. واسأل عن مصير الاتفاق النووي.. فقال إلي إن الرئيس مبارك طلب منه ألا يفاتحه في أمره ابدا!
وتدور الأيام ويلقي المستشار شميت ربه بعد ان أمضي سنوات طويلة.. يتلقي عقوبة اخلاصه لمصر.. الوطن العظيم الذي ننتمي إليه.