المساء
خيرية البشلاوى
الشيخوخة
وكأنني أشاهد فيلما يلعب فيه "الماكيير" "فنان المكياج" دورا رئيسيا.
الصورة الذهنية المستقرة في أرشيف الذاكرة تتعرض للتحديث عنوة.. بالأحري للهجوم.. سطور الزمن محفورة بقسوة علي وجوه تقترب منها الكاميرا في حفل افتتاح مهرجان القاهرة يوم الأربعاء الماضي. سطور معنوية تذكر بفوات السنين. وكيف "تسرسبت" من بين أيدينا. تذكرت أغنية تتر "ليالي الحلمية" الذي كتبه سيد حجاب وأتذكر أن المسلسل مرت عليه سنوات طويلة وظل رغم السنين من أزهي وأعذب الأعمال الدرامية في زمن "الريادة" الأصلي.. وزمن "الريادة" نفسه قد ولي "ريادة" الشاشتين الصغيرة والكبيرة فقد هاصت وظاطت الشاشة الصغيرة. وصغرت رغم تمدد القنوات وانتشارها. وتفوقت مهرجانات بلاد عربية أصغر برغم تمدد المهرجانات المصرية وتنوع موضوعاتها.
انتشرت "النفسنة" مثلما انتشر عقار "الترامادول". ومناظر الجنس أصبح "آلاكارت" أي حسب الطلب علي "اليوتيوب" ولا يقتصر علي الأفلام.
وتحجبت اللغة العربية. ارتدت غطاء رأس مصنوعا من الحروف اللاتينية. صارت أجيال المدارس الأجنبية تتبادل الحوار "بلغة" مسخ لا أعرف من هو ابن الحرام اللي اخترعها ونشرها عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة. الأجيال التي تحيي أعلام دول الغرب في المدارس الخاصة في مصر؟ اصبحوا بوعي أو من دون وعي يضعون علي الكلمات العربية حجابا غربيا عند حوارهم في وسائل التواصل الاجتماعي. وتلك كارثة فعلا.
ومهرجان القاهرة السينمائي الأول أصابته مثلما أصابت أشياء أخري كثيرة تشوهات وشيخوخة واضحة.. زمن "الريادة" يتواري منذ فترة. صغرت قامته وسط أقرانه. وقبحت الصورة وانحسر حتي الوهج السطحي الاحتفالي الذي كان يميز حفلات الافتتاح في سنوات سابقة. عودوا إلي الأرشيف وراجعوا عدد النجوم والمخرجين والشخصيات البارزة من جنسيات متنوعة شاركوا فيه. وحتي النجوم المصريين كانوا أكثر شبابا.. الشباب الحالي من أجيال الممثلين غابوا عن المشهد مثلما غابوا في الانتخابات الأخيرة.. الخيبة موصولة.
فإذا كانت المنظرة والأناقة الشكلية والاحتفالات المبهجة الملونة والمزدانة بباقات الورد ليست مهمة فماذا عن المضمون وماذا في الدورة يلفت النظر ويغري عشاق السينما للمشاركة؟!
فيلم الافتتاح لا يمثل بالتأكيد أفضل الاختيارات. وأن حقق نسبة أكبر من النسب المعتادة في الليلة الأولي حيث يفضل الجميع حفل العشاء.. فالفيلم تجاري وسوف يعرض لاحقا في السوق مثل أفلام النجمة ميريل ستريب الأكثر جمالا وبهجة "ماما ميا" علي سبيل المثال.
ان المسافة الفاصلة بين الجمهور المستهلك لفن السينما والمهرجان تزداد اتساعا ليس فقط بالنسبة للأفلام داخل صالات العرض وإنما في قاعات الندوات والنقاشات وأعترف أن التحدي الأكبر الذي واجه المهرجان طوال دوراته كانت قدرته علي شد الجمهور إلي قاعات العرض بنسبة كبيرة للفرحة علي أنواع من الفيلم مختلفة تنتمي إلي بلاد الدنيا التي تملك صناعة وطنية جديرة بالاهتمام.. وأيام أن كانت المناظر الجنسية مادة للجذب كان المهرجان يحقق رواجا سلبيا لا يصب في قيمة الحدث الثقافي الفني ولا يعني انتصارا لفنون الفيلم.
عشاق السينما المصريون مع سيادة الثقافة الشعبية الاستهلاكية بتوابلها المعروفة أصبح يفضلها مسبوكة علي الطريقة السبكية.
و"السبكية" هم من حفظوا ماء وجه السينما المصرية هذه الدورة الأمر الذي يعني الانتصار الساحق بعد 37 سنة من عمر المهرجان لهذا التيار.. حيث "السبكي" يشارك بعملين في المسابقة الرسمية. والدورة نفسها أعادت للسبكي اعتباره بعد فضيحة برنامج "العاشرة مساءً" المصطنعة والملفقة في تقديري.
الوجوه البارزة في ملف المهرجان غطتها أعراض الوهن وحتي الكآبة وتراجعت بفضلهم قيمة المهرجان كاحتفالية مبهجة.. كلوديا كاردينال "78 سنة" كانت ضيفة للمهرجان حين كان جمالها وحده قادراً علي اجتذاب الجمهور. كثيرون جدا لا يعرفون أعمالها. وبطولة أول أفلامها أمام عمر الشريف كانت عام 1958 مع فيلم "جحا" التونسي الفرنسي المشترك. فيلم يحمل قيمة تاريخية ولكنه لا يعبر عن قيمة النجمة كممثلة.
أوافق وأؤمن بأن الشكل ليس الأهم. ولكن الروح والقدرة علي الابتكار وعلي صناعة البهجة كما يتوقعها الناس من عشاق الفيلم وهي التي تحرك وتحيي حدث المهرجان الذي أصبح مجرد تحصيل حاصل. أصابه مثلما أصاب كثيراً من المظاهر الثقافية الإفلاس المعنوي قبل المادي. ومثل جميع المهرجانات عندنا ليست "سبوبة" لاصحابه أو "رتبه" أرقي لمن لا يملكون رسالة ثقافية ولا موقفا فكريا. ولا انتماء حقيقي إلا لأنفسهم وذواتهم. فلا يهم وجود عروض إباحية مباشرة ولا أفلام لمخرجين يشاركون إسرائيل نشاطها الفني. ولا بأس من تقليد بنود المهرجانات الأخري دون النظر إلي خصوصية الواقع الثقافي والاجتماعي للجمهور ولا خصوصية المرحلة التي نعيشها.
الإعلام يحاول أن ينفخ في "الحدث" وهذا مطلوب وجيد والمخلصون يرون أن مجرد استمراره في ظل ظروفنا الصعبة نجاح. وهذا أكيد ومن هذه الزواية وحدها نشهد بنجاحه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف