المساء
محمد جبريل
اغتيال محطة الرمل.. لا عزاء للمبدعين !
غادرنا فندق متروبول المطل علي ميدان محطة الرمل.. قبل أن نتجه إلي مكتبة الإسكندرية أطال صديقي المبدع الدكتور محمد المخزنجي تأمل بانورامية الميدان: الترام والبنايات علي الجانبين. وامتداد الأفق إلي جامع القائد إبراهيم.. قال المخزنجي في تأثر: أحسد مبدعي الإسكندرية علي هذا الميدان. فهو مصدر الهام لا ينضب!
أديبنا الكبير الراحل محمد مفيد الشوباشي أول من تناول صورة الحياة في ميدان الرمل.. روايته الجميلة "الخيط الأبيض" صورت حركة الحياة في الميدان أوائل القرن العشرين.. بدت الملامح إرهاصة بما صار عليه الميدان ـــ فيما بعد ـــ من مظهر يجمع بين التراث والحداثة. ويعبر عن أجمل ما في الحياة السكندرية من حيث التزاوج بين النسقين العربي والأوروبي.
عادتي ـــ في زيارتي إلي الإسكندرية ـــ أن ألتقي الأصدقاء عند باعة الصحف. أمام باب السنترال وسط الميدان. أو في الكشك الدائري للحلوي والمشروبات أول محطة الترام. ذلك ما ألفه أبناء المدينة وزوارها. حتي الحراك السياسي تجلي في الميدان خلال ثورة 1919. ومظاهرات 1935. وما بعد الحرب العالمية الثانية. في رواية يوسف إدريس "قصة حب" صور المعركة الدامية بين المتظاهرين ضد الاحتلال والجنود الانجليز.
ظل لميدان محطة الرمل. وما يتصل به من ميادين وشوارع: سعد زغلول وصفية زغلول والغرفة التجارية وتفرعاتها إلي قلب المدينة. تجسيداً ملهماً للمدينة التي استحقت ـــ لعقود صفة عروس البحر المتوسط. ولعلنا نذكر عيسي الدباغ في رواية نجيب محفوظ "السمان والخريف" حين وجد الخلاص في نهاية الضياع بالوردة الحمراء التي قدمها له ـــ تحت تمثال زعيم الوفد ـــ مناضل لم يكن يعرفه.
الدول التي بلا حضارة ولا تاريخ تسعي لأن تختلق ذلك. البنايات التي يجاوز عمرها المائة عام في الولايات المتحدة تعد أثراً تاريخياً. والترام ـــ بصورته القديمة في بلادنا ـــ جزء من وسائل المواصلات في عواصم أوروبا. أخلاق الزحام التي تحكمنا منذ عقود. تدفعنا إلي البحث عن حلول. نرضي بالعشوائية في أحيان كثيرة لمجرد أن يصبح كل شيء علي ما يرام. حتي لو ضحينا بالأم والجنين.. هذه الأخلاق فرضت السكلانس علي نمطية الحياة في بلادنا.. أزيل الترام من القاهرة: حل ـــ بدلاً منه ـــ التروللي باص لعدم حاجته إلي قضبان. ثم رفع التروللي لغير سبب. ولم يهجر الزحام شوارع القاهرة باختلاط وسائل المواصلات الصاخبة بالضوضاء السمعية والبصرية. وبأمراض مبعثها تلوث البيئة. ثم قرر المحافظ الحالي للعاصمة أن يريح مصر الجديدة من ملمح مهم هو المترو. بحجة البطء. لم يحاول المحافظ أن يسأل عن الوسيلة التي تجعل من المترو وسيلة مواصلات حديثة. تساعد في تخفيف أزمة الزحام. لجأ إلي حل البتر الذي يلجأ إليه الأطباء عندما يخفق العلاج الدوائي.
حاولت الإسكندرية أن تبقي علي الكثير من طابعها. رغم الاصرار علي هدم بناياتها التاريخية. وبناء أبراج سكنية لا تلبث أن تتقوض وتنهار. وتحدث المآسي التي تطالعنا بها ـــ بصورة روتينية ـــ وسائل الإعلام. لكن البنايات الجميلة في الميادين والشوارع المهمة ظلت تكويناً في المشهد السكندري. بالإضافة طبعاً إلي خطوط الترام في أحياء المدينة. وفي ترام الرمل. وأشفق المسئولون من ثورة أبناء المدينة علي محاكاة مسئولي العاصمة في قراراتهم اللا مسئولة. فعملوا علي تطوير ترام الرمل.. لكن الرغبة في المحاكاة البليدة لم تفارقهم. بدأوا في ازالة ما يضمه الميدان من فسيفساء تهبه مشهداً متكاملاً. يدفع مبدعاً زائراً إلي الحديث علي ما ينبض به الشارع من رؤي ملهمة!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف