عزت ابراهيم
سيناريوهات ما بعد المذبحة
ضربت هجمات باريس ليلة الجمعة الماضى حسابات دول كبرى وأربكت تخطيط حكومات للمناورة فى الملف السورى وضبابية المواقف ازاء الصعود الكارثى لتنظيم «داعش» الارهابى فى العراق والشام ولم تعد الكلمات المراوغة تجدى فى مواجهة فزع الشعوب الأوروبية التى شاهدت على الهواء مباشرة سيناريو 11 سبتمبر جديد مع تغيير التواريخ الى 13 نوفمبر. الولايات المتحدة تبدو فى مأزق ضغوط فرنسا واحتمال مطالبتها بتطبيق المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلنطى «الناتو» والتى تعتبر كل عدوان على دولة من أعضاء الحلف هو اعتداء على كل الدول الأعضاء، ولم تكن الولايات المتحدة راغبة فى توسيع دائرة الحرب قبل أن تحسم خريطة التحالفات على الأرض فى سوريا والتى تعقدت أكثر بدخول روسيا بكل ثقلها وراء بشار الأسد. كان الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند واضحا فى توصيف ما يجرى بأنه اعلان حرب على بلده وهى اشارة واضحة للدول الأعضاء فى الناتو للتضامن مع فرنسا مثلما حدث من حلفاء أمريكا بعد هجمات سبتمبر فى نيويورك وبمفردها لن تكون باريس قادرة على انزال هزيمة ساحقة لتنظيم الدولة الإرهابى ولو تدخلت دول «الناتو» دون تحضير كاف وسد كل الثغرات القائمة وأولاها تسلل الارهابيين ضمن قوافل النازحين الى القارة الأوروبية أو عودة عناصر جهادية غير مرصودة الى ضواحى المدن الكبرى فى الغرب ستكون العواقب كارثية تنبىء بمزيد من الهجمات. أثبتت العملية الارهابية أن الاستعدادات الأمنية لا تمنع الاختراق، فقد كانت فرنسا تملك معلومات مبدئية عن احتمال ضربة ارهابية وقواتها فى قمة الاستنفار قبل قمة المناخ التى سيحضرها زعماء العالم نهاية الشهر الحالى فى باريس وأنفقت أموالا طائلة فى رصد وتعقب الخلايا النائمة بعد حادثة شارل ابدو الارهابية قبل شهور لكن جماعات الارهاب لا تعدم الحيل وتستطيع أن تضرب من ثغرات محدودة لأنها تعتمد على أفراد يملكون الحافز والدافع للتضحية بأنفسهم من أجل أفكار ظلامية تعادى المدنية والحضارة ولا يحتاج الأمر الى جيوش ومقاتلين لكسر عزيمة الخصم القوي.
يقول الرئيس الأمريكى باراك أوباما إن استراتيجية واشنطن قد نجحت فى احتواء التنظيم، ولا نعرف ما يقصده بعملية الاحتواء بينما «داعش» تضرب فى بيروت وباريس وتتوعد بهجمات أخرى فى اطار استراتيجية عالمية للتنظيم يرسل من خلالها برسائل واضحة للغرب بصعوبة المواجهة. ويوميا يسقط الضحايا بالمئات فى سوريا والعراق وليبيا دون أن يتعاطف الاعلام الغربى بالدرجة نفسها مع الضحايا مثلما حدث فى باريس. ويفسر مسئولون فى الادارة الأمريكية ما قصده أوباما بنجاح عملية احتواء داعش، قبل يوم من عملية باريس، فى قدرة واشنطن على دعم المقاتلين الأكراد لاستعادة جبل استراتيجى وفى وقف تقدم التنظيم على الأرض فى العراق وسوريا ووقف تدفق المرتزقة الأجانب وفى قيام طائرات بدون طيار فى قتل «الجهادى جون» المسئول عن عمليات قطع الرءوس الوحشية وهو تفسير لا يرقى الى مستوى تهديد تنظيم الدولة وقدرته على توجيه الضربات القاتلة خارج حدود الصراع فى العراق وسوريا والذى يعنى أن داعش تنقل عملياتها الى مرحلة متقدمة.
نتذكر قمة مكافحة الارهاب فى واشنطن والاجتماع رفيع المستوى بمقر الأمم المتحدة قبل أقل من شهرين ولقاءات أخرى لم تقدم رؤية لمواجهة الارهاب العابر للحدود وسوف يعقد الحلفاء الغربيون اجتماعات مكثفة فى الأيام القادمة بدءا من قمة العشرين فى تركيا واجتماعات حلف الأطلنطى المتواصلة فى مقره ببروكسل الا أن تلك الاجتماعات سوف تصطدم برغبة ادارة أوباما فى تجنب التصعيد ربما على خلفية ايمان البيت الأبيض بأن الحرب ضد «داعش» طويلة الأمد يتخللها نجاحات واخفاقات. فى المقابل، الرأى العام الغربى بدأ الضغط على الحكومات للقيام بعملية عسكرية واسعة تقتلع التنظيم من على الأرض، وهناك كتابات من أسماء معروفة ترى أن القول بصعوبة اقتلاع جذور الارهاب هو اعلان بالهزيمة فى مواجهة قوى الشر. وفى كل الأحوال، تدفع المنطقة العربية ثمنا فادحا لمخططات التدخل الخارجى وتقويض الدولة فى العراق وسوريا واليمن وليبيا وتضيق الخيارات أمامنا أكثر وأكثر وترهن القوى الكبرى الحلول وفقا للترتيبات التى ستنتهى اليها مشاوراتها فى الفترة المقبلة ويبقى شبح تدمير المجتمعات شاخصا فى ظل العجز عن نقد الذات ومواجهة الأفكار التى تستند اليها الجماعات الارهابية بشجاعة ونترك الحلول الى القوى الغربية التى لا تعرف سوى مصالحها المباشرة وحدها!