الأهرام
يوسف القعيد
انتخابات «يوميات نائب فى الأرياف»
كيف تناولت الرواية المصرية الانتخابات؟ سؤال وجهته لنفسى بدلاً من توجيهه لنقاد الرواية أو علماء اجتماع الأدب. بسبب تراجعهم من حياتنا. إن ظهور الانتخابات فى المشهد الروائى المصرى قليل. بل يصل لحد الندرة. هل لأن الانتخابات حدث موسمي؟ ربما يهل على بر مصر كل عدد من السنوات. لذلك نتذكره كلما جاء وننساه بعد أن يمضي. أو أن البعض يتعامل معه باعتباره مناسبة. والمناسبات تقتل الإبداع فى خيال المبدع. ولا يخرج منها أى إبداع. فى سنة 1937 أصدر توفيق الحكيم روايته: يوميات نائب فى الأرياف. ورغم أنها كانت يوميات لتجربة عاشها الحكيم بنفسه. إلا أن الانتخابات تظهر خلالها. ويوميات نائب فى الأرياف تعد من أجمل النصوص الروائية التى كتبها توفيق الحكيم. رغم أن النقاد يعطون الأولوية لروايته: عودة الروح. ربما لأن جمال عبد الناصر قرأها عندما كان طالباً فى الكلية الحربية. بعد أن استعارها من مكتبة الكلية. وعلَّم بالقلم الرصاص على بعض سطورها. لكن تظل يوميات نائب فى الأرياف درة ما كتبه توفيق الحكيم فى جميع نتاجه من حيث السرد والحكى والاعتراف. لذلك أعتبرها أجمل ما كتب توفيق الحكيم فى باب الكتابة الروائية.
يوميات نائب فى الأرياف نص لا يضاهيه أى نص روائى آخر لتوفيق الحكيم. وهو أقرب إلى روحه الفنية من عودة الروح. رغم أن عودة الروح ألهمت عبد الناصر فكرة القيام بالثورة التى غيرت وجه الدنيا مصرياً وعربياً وإسلامياً والعالم كله.

لا تعد الانتخابات موضوعاً للرواية ولكنها ترد فيها ضمن يوميات وكيل النيابة باعتبار أن وكيل النيابة فى عمله قريب من عمليات الانتخابات. وما أن يسمع النائب أن فى البلد أزمة وزارية. وأن ثمة شائعة بأن هناك وزارة جديدة. وأن الوزارة ناوية تجرى انتخابات جديدة حتى تطل علينا الانتخابات فى جو الرواية. والرواية مكتوبة ومنشورة فى ظل الليبرالية. تلك السنوات الواقعة بين ثورتى 1919 و1952. ورغم كل ما يقال عن الحريات العامة. فإن وكيل النيابة بعد أن يستمع لخبر الانتخابات الجديدة يكتب:

- ولم يعلق أحدنا يقصد نفسه ومأمور المركز على هذه الأخبار بشيء. فكلاناً يجهل ميول الآخر. كلانا يخشى أن يظهر رأيه الدفين. ثم يعود وكيل النيابة إلى نفس المأمور. ليجده قد جمع العمد فى المركز لينبه عليهم بضرورة وجودهم فى الانتخابات، يقول لهم:

- فتح عينك انت وهو. مرشح الحكومة فى الانتخاب لازم ينجح. أنا نفضت إيدى وإنتم أحرار. مفهوم؟. وتردد أحد العمد وقال:

- فيه يا جناب البك جماعة مشاغبين أقويا كلمتهم مسموعة من العائلة الثانية الكبيرة.

فدفعه المأمور فى كتفه وقال له:

- المشاغبين اتركهم لى أنا. تفضل.

وعندما يسأله وكيل النيابة عن جريمة القتل التى يحقق فيها يرد عليه:

- يعنى نترك الانتخابات ونلتفت للقتل والخنق؟.

ثم يقول للوكيل بشيء من التوسل:

- يا بك. الوقت بطال والسياسة متحكمة فى البلد. ما فيش داعى للتدقيق.

ونصل إلى الانتخابات يكتب النائب: نهضت فى الحال، ونهض المأمور معى وقلت مازحاً:

والانتخابات يا حضرة المأمور..؟.

عال. ماشية بالأصول؟.

فنظر إليَّ مليَّاً، وقال لى فى مزاح كمزاحي:

- حانضحك على بعض؟! فيه فى الدنيا انتخابات بالأصول!!.

فضحكت وقلت:

قصدى بالأصول: مظاهر الأصول.

إن كان على دى اطمئن.

ثم سكت قليلاً، وقال فى قوة وخيلاء:

- تصدق بالله؟ أنا مأمور مركز أديره بالشرف. أنا مش مأمور من المآمير اللى انت عارفهم، أنا لا عمرى أتدخل فى انتخابات، ولا عمرى أضغط على حرية الأهالى فى الانتخابات، ولا عمرى قلت انتخبوا هذا وأسقطوا هذا، أبداً، أبداً، أبداً، أنا مبدئى أترك الناس أحرار تنتخب كما تشاء...

فقاطعت المأمور وأنا لا أملك نفسى من الإعجاب:

- شىء عظيم يا حضرة المأمور، بس الكلام ده مش خطر على منصبك؟ إنت على كده... إنت رجل عظيم...

فمضى المأمور يقول:

- دى دايماً طريقتى فى الانتخابات: الحرية المطلقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وأرميه فى الترعة، وأروح واضع مطرحه الصندوق اللى إحنا موضبينه على مهلنا.

- شىء جميل!.

قلتها فى شيء من الاستغراب ممزوجاً بخيبة الأمل، ولم أشأ أن أعقب على ما سمعت. ومددت يدى مسلماً. وخرجت وخرج خلفى المأمور يشيعنى إلى الباب الخارجي؛ وإذا بى أري، وأنا أجتاز فناء المركز، شرذمة من الخفراء تتأهب للشحن فى زاللورياتس ومن بينهم الشيخ عصفور بأسماله وعوده الأخضر؛ فالتفت إلى المأمور أسأله فى ذلك، فقال وهو يشير بيده إلى الرجال: أنفار قايمة لحفظ النظام ساعة إعطاء الأصوات. والشيخ عصفور ما له ومال الانتخابات؟!.

مواويله تؤثر على عقول الفلاحين!.

يعنى منتدب للدعاية!.

فابتسم المأمور ابتسامة المصادق على ملاحظتى، وابتسمت أنا أيضاً وأنا أضيف قائلاً:

- حتى الشيخ عصفور شغلتوه فى السياسة!.فنظر إليَّ المأمور نظرة ذات معني، وقال فى تنهد:

- نعمل إيه بس!.

وفى هذه العبارة وهذا التنهد كل الكفاية فى جعلى أرثى لحال هذا المأمور وأقدر دقة موقفه ومسئوليته أمام الرؤساء الذين يطلبون إليه نتائج معينة بالذات بكل الوسائل التى يراها مؤدية إلى الغرض، فإن أحجم أو تردد نكلوا به بغير رحمة ولا شفقة. من باب التذكير أقول إن نهاية الفيلم السينمائى الذى أخرجه عبقرى السينما المصرية: توفيق صالح وقام ببطولته الممثل الفذ أحمد عبد الحليم. جاءت نهايته عندما تم استبدال صندوق الأصوات الحقيقية بصندوق الأصوات المعدة بمعرفة المأمور حتى يتم التزوير من خلال استبدال الصناديق. المأمور يأخذ الصندوق المعد سلفاً. أما صندوق الأصوات الحقيقية. فتوضع عليه جثة الفتاة القتيلة ريم بعد إخراجها من الترعة. وهكذا تتساوى جثة الفتاة الغريقة بأصوات الناس الحقيقية بعد أن تم إرسال بديلاً لها. هذا ما كان يجرى بمصر قبل 78 سنة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف