الوطن
سعد الدين هلالى
الشعب يريد عودة مكارم الأخلاق
غلبت حاجة الشعب المصرى لعودة أمنه سائر حوائجه بعد ثورة 25 يناير 2011م التى كانت انتفاضة ضد فساد الحياة العامة وترهل نظام الحكم. وعندما سرق الإخوان من المصريين ثورتهم فى 2012م وأشاعوا الفوضى وسوء الأخلاق إلا أن يغتصبوا السلطة بشعارهم الظلامى «إما أن نحكمكم وإما أن نقتلكم» انتفض المصريون بثورتهم الثانية فى 30 يونيو 2013م لاسترداد السلطة المغتصبة، واستدعوا رئيس المحكمة الدستورية العليا المستشار عدلى منصور ليحرسها لهم بصفة مؤقتة إلى حين تم اختيار رئيسهم المنتخب عبدالفتاح السيسى فى 2014م ليقوم على حقوقها بعد أن وجدوا فيه الأمانة لوطنه وللشعب الذى ينتمى إليه، واجتمعت كلمتهم على أن يقدم الرئيس فى أولويات مسئولياته ملف أمن الشعب على سائر حوائجه المتعددة بالتوازى مع مسكّنات الضرورة بتوفير لقمة العيش التى تحمى الحد الأدنى للكرامة الإنسانية لاجتماع الأمن وكفاف لقمة العيش فى مرتبة واحدة فى قوله تعالى لأهل قريش: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ» (قريش: 3، 4). وفى أقل من عام ونصف من تولى الرئيس أمانة الحكم المصرى عادت الحياة الأمنية للشعب على وجه مذهل للحُسّاد فى ظل تحديات الذين نذروا أنفسهم مكملين سلسال الشر بشعارهم الأسود «إما أن نحكمكم وإما أن نقتلكم». وخرج الإنسان المصرى من بيته مجدداً ليسعى على معاشه وليمارس حياته الاجتماعية مع أهله وأولاده وأصحابه على رجاء العود سالماً غانماً، بعد أن كان يودع بيته يائساً من أن يعود إليه مرة أخرى فى ظل حكم الخائنين الغادرين باسم الإسلام البرىء من كل عديمى الرحمة التى كتبها الله على نفسه فى قوله سبحانه: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (الأنعام: 54)، وجعلها رسالته الخاتمة للإنسانية فى قوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: 107)؛ وحتى قال الرسول عن نفسه: «يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة»، كما أخرجه الحاكم وصححه من حديث أبى هريرة.

وبمجرد أن استشعر المصريون بنجاح أجهزتهم الأمنية والاقتصادية باجتياز مرحلة الخطر فى الملفين الأمنى والمعيشى تعالت أصواتهم تطالب بضرورة عودة مكارم الأخلاق فى لغة الإعلام والحوار المجتمعى. وهذا من مفردات الشعب المصرى التى يجب تسجيلها باسمه ليتميز بها عن سائر شعوب العالم، فلو كان المصريون كغيرهم فى تقديم طلبات الجسد على سمو الروح والقيم الأخلاقية لما سمعنا أصوات المطالبة بعودة مكارم الأخلاق فى الحياة العامة فى ظل بدايات الأمن والتواضع الاقتصادى، ولكانت المطالبات بأن يشتد الأمن إلى قمة مستوياته العالمية كما يرتفع الاقتصاد إلى مرحلة الرخاء. إلا أن الشعب المصرى الأصيل الذى وصفه النبى صلى الله عليه وسلم بأنه خير أجناد الأرض، وبأنه فى رباط إلى يوم القيامة، يعنى فى يقظة للحق وجاهزية دائمة للدفاع عن الحق، أبى إلا أن يقدم ملف مكارم الأخلاق على ملف تحسين الأمن ورفع مستوى المعيشة. فإذا كانت إدارة الدولة قد تجاوزت مرحلة الخطر فى ملفى الأمن والاقتصاد والحمد لله فلتنطلق إلى عودة القيم ومكارم الأخلاق التى تعينها على سائر حوائج الشعب المتنامية، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يعد إتمام مكارم الأخلاق مهمته الأساس، فيما أخرجه البيهقى والحاكم وصححه عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وأخرجه أحمد بلفظ: «إنا بُعثت لأتمم صالح الأخلاق».

ويترتب على ما سبق أنه لا حجة للمزايدين على أوجاع الشعب ومطالبه المشروعة سواء من الإعلاميين أو من أهل النقابات الفئوية والاتحادات العمالية بأسلوب المجاهرة الهادم للمعنويات السليمة والخادش للحياء والكرامة الإنسانية فيما يُعرف بصيغة التبجح عند مخاطبة المتحملين للمسئولية فى المناصب القيادية بدون سقف لسببين:

السبب الأول: أن أسلوب التهييج والمزايدة على الأوجاع يقضى على البقية الباقية من حياة المضرورين بتعجيل اليأس عندهم، فبدلاً من امتصاص جنون الغضب فيما يُعرف بالعزاء أو المواساة، خاصة فى الحوادث الكبيرة، فإن أسلوب المزايدة على الضحايا سيجهز على بقيتهم ولن يعيد إليهم التاريخ الماضى، وقد كان فى إمكان صاحب الكلمة الطيبة والأخلاق الحسنة أن يسبغ السكينة على المروعين حتى يرشدوا فى التعامل مع أزمتهم، ولذلك ورد فيما أخرجه أبويعلى والبزار وابن أبى شيبة عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق».

السبب الثانى: أن أسلوب المجاهرة والتبجح يغتال الخير المتبقى فى قلوب المستهدفين، فتحت ستار نصيحة المسئولين بأسلوب التجريح الذى يحول النصيحة إلى فضيحة يموت المسئول معنوياً، كما يخسر الشعب ثمرة الدرس الذى تلقاه هذا المسئول من خطئه فضلاً عن فوات خير مواهبه المتبقية. ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجاهر الناس بخطأ أحدهم حتى لا يعين عليه الشيطان، بل كان يقول: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا»، فقد أخرج الشيخان عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم رخّص فى أمر فتنزه عنه ناس من الناس، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بان الغضب فى وجهه ثم قال: «ما بال أقوام يرغبون عما رُخّص لى فيه»، كما أخرج البخارى عن عائشة أنها طلبت من أهل بريرة شراءها لإعتاقها فاشترطوا الولاء لهم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لها: «ابتاعيها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست فى كتاب الله. من اشترط شرطاً ليس فى كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط».

إن المفلسين جمالاً للكلام وحسناً للألفاظ وكمالاً للأخلاق هم المجاهرون بالنصيحة والمزايدون على أوجاع الناس. أما الكرماء فهم الأحرص على حقوق الناس بأجمل العبارات وأحسن الإشارات وأكمل الأخلاق التى تجمع ولا تفرق وتبنى ولا تهدم وتواسى ولا تقتل، وتأخذ بالمخطئ إلى بر العلم بخطئه والموعظة من إهماله دون المساس بواجب مؤاخذة العدالة الإدارية والقضائة؛ ولذلك ورد فيما أخرجه أبوداود والنسائى بسند صحيح عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا الحدود»، يعنى إلا الحقوق الثابتة بالقانون. كما تأخذ بالمضرور إلى تنويره بحقوقه بعد تهدئته بالمواساة حتى يحفظ لنفسه بقيتها ويرشد فى إدارة أزمتها، ولذلك ورد فيما أخرجه الطبرانى عن سهل بن سعد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل كريم يحب الكرماء ويحب معالى الأمور ويكره سفسافها»، وقال تعالى: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا» (البقرة: 83)، وقال سبحانه لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون لموعظته:«فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» (طه: 44).

أما معيار حسن الخلق ومكارمها فهو الموضوعية بإبعاد الوسيط (الطرف الثالث) فى المعاملة، فإن كانت المعاملة مع الله فعليك أن تلغى حسابات الناس، وإن كانت المعاملة مع الناس فعليك أن تلغى حسابات نفسك حتى تكون متجرداً، وهذا ما ذكره ابن القيم الجوزية فى كتابه «مدارك السالكين» نقلاً عن عبدالقادر الكيلانى، فقال ابن القيم: «مدار حسن الخلق مع الحق (الله) ومع الخلق (الناس) على حرفين ذكرهما عبدالقادر الكيلانى فقال: «كن مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس». قال ابن القيم: فتأمل ما أجمل هاتين الكلمتين مع اختصارهما، وما أجمعهما لقواعد السلوك ولكل خلق جميل. وفساد الخلق إنما ينشأ من توسط الخلق بينك وبين الله وتوسط النفس بينك وبين خلقه، فمتى عزلت الخلق حال كونك مع الله وعزلت النفس حال كونك مع الخلق فقد فزت.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف