قادتنى الأقدار للوجود فى موسكو فى الأيام الماضية عبر زيارة خُطط لها منذ نحو العام وتأخر تنفيذها لتكون من 10 إلى 14 نوفمبر الحالى.
دعونى أبدأ لكم بوصف الأجواء السابقة لهذا القرار علَّه يساعدكم فى الإجابة عن تساؤل فرض نفسه بعد إعلانه وكان مفاد السؤال يا سادة: هل باعتنا روسيا؟ هل تخلت عنا القيادة فى موسكو؟
الحقيقة التى أؤمن بها من قبل زيارتى لموسكو وتقرها قواعد التاريخ والسياسة على مر العصور، أن السياسة تحكمها مصالح البلاد والبشر وأن لا شىء مطلق فيها. لا صداقة مطلقة ولا عداوة مطلقة، فقط تفرض المصالح نفسها وتملى شروطها دوماً. الشعب الروسى الذى ذهب لوضع الورود والأزهار على مُجسم مدينة «بطرسبرج» الكائن أمام قبر الجندى المجهول المجاور «للكرملين» تعبيراً عن ألمه مما حدث لضحايا الطائرة الروسية التى تحطمت فى سيناء مؤخراً، يحدثك بود عن مصر وإقامته الآمنة بها مستمتعاً بطقس مشمس لم يره قبلاً، وأسعار لا يجد لها مثيلاً. بل ويتمنى العودة لبلادنا بعد سماح دولته بذلك. وبخاصة أن شركات السياحة لم تُعد للروس ممن قاموا بحجز رحلاتهم مسبقاً لمصر أموالهم التى دفعوها لقضاء عطلاتهم فى موسم الشتاء القارس بمناطق مصرنا الدافئة، ولكنها أجبرتهم على الذهاب لإسطنبول الأقل برداً من موسكو. إذاً ما زال الشعب يذكر كرم السياحة المصرية رغم قسوة الحادث وما يتم الحديث عنه فى وسائل الإعلام. أما الحكومة الروسية فهى لم تفقد دفء علاقاتها مع مصر ولكنها شعرت بالتزام تجاه شعبها لفعل ما قامت به، وذلك لأسباب كثيرة، يأتى فى مقدمتها إدراكها لفحوى الرسالة المُرسلة لها من وراء هذا الحادث من قبَل منظمات إرهابية تعلم ارتباطها بشكل أو بآخر بأجهزة المخابرات الرافضة بلادها للوجود الروسى فى سوريا من جانب، والرافضة لتوطد العلاقة مع مصر من جانب آخر. ورغم الفهم الروسى لهذا الحادث وأبعاده فإن الإدارة الروسية ارتأت وقف رحلات السياحة لمصر لمنع تزايد المعارضة لفكرة التدخل الروسى فى سوريا على المستوى الداخلى وربطه بالحادث كما أراد من قام به. إلى جانب رغبتها فى قيام السلطات المصرية بمراجعة أسلوب تأمينها للمطارات، رغم عدم تيقنها حتى الآن من فكرة تعرض الطائرة لعمل إرهابى وانتظارها لنتائج التحقيق. فقط أرادت موسكو حماية الدولة من هجوم المعارضين فى الداخل والتأكيد على المناحى الأمنية لحماية مواطنيها فى الخارج، وهذا حقها بل واجبها. ولذا كان إرسال لجنة روسية لمصر لمتابعة ذلك مع المسئولين المصريين منذ أيام انتهت من عملها فى الغردقة وشرم الشيخ وتواصله الآن فى القاهرة.
ليس هذا فحسب، بل إن موسكو باتت تعلم أنها قد تتعرض لهجمات إرهابية على الأراضى الروسية، وهو ما دفعها لتشديد الإجراءات فى المطارات وعلى المقبلين لها. ليس هذا فقط، لقد قامت الحكومة الروسية بإرسال رسائل نصية على هواتف مواطنيها صباح السبت الماضى تحذرهم فيها من الوجود فى المناطق المزدحمة وضرورة الإبلاغ عن أى شخص يشتبهون فيه. وهو ما أعقب حادث استاد باريس الذى أعلنت بعده بلجيكا منع مواطنيها من السفر لفرنسا وروسيا. إذاً القصة ليست فى مصر وعلاقتها بروسيا، ولكنها فى الإرهاب الذى بات يهدد روسيا وبخاصة بعد إعلان تنظيم داعش تهديده لها بإمكانية استعادة القوقاز منها. وهى رسالة فهمتها موسكو بأنها موجّهة لها من الغرب الذى لم ينسَ لها موقفها فى أوكرانيا وضم جزيرة القرم العام الماضى، كما لم ينسَ لها تغيير خططه فى سوريا بعد تدخلها هناك. فى هذا المناخ جاء إعلان روسيا وقف جميع رحلات شركة مصر للطيران إليها لحين الاطمئنان لفعاليات التأمين فى مصر، رغبة منها فى تأمين ذاتها من إرهاب لم تعد تعلم من أين سيهاجمها. ماذا عنا نحن؟ بصدق أقول إن علينا، رغم ما أدركه من ملامح مؤامرة لا نهاية لها طالما كنا خارج سربهم، اقتناص الأزمة لتطوير الذات وإصلاح ما بنا من عيوب طالت البشر قبل المنظومة. نعم نحتاج لصحوة ضمير وديكتاتورية قانون لنحمى بلادنا من خطر الخيانة وخطر التآمر.
وللحديث بقية.