الوطن
نشوى الحوفى
من موسكو تحياتى (2)
شاءت الأقدار أن تتم رحلتى إلى موسكو فى تلك الأيام العصيبة التى تواجهها بلادى، فبحكم عملى كمدير لإدارة النشر الثقافى بنهضة مصر، كان التخطيط مع رئيس مجلس الإدارة داليا إبراهيم لإعادة التواصل مع المجتمع الثقافى الروسى الذى توقف منذ سنوات عند حدود عدد من رموز الثقافة الروسية وأشهرهم «تولستوى» و«ديستوفسكى». ورغم توتر الأجواء عقب قرار إعادة كل السائحين الروس إلى بلادهم فإننى رأيت -حين سئلت من قِبل الإدارة- إتمام الرحلة انطلاقاً من فهمى لدور الثقافة فى لعب دور القوة الناعمة بين الشعوب ومد جسور الفهم بينها، وكذلك المساهمة ولو بكلمات بسيطة فى إيصال صوت مصر لبعض أصحاب القرار فى موسكو ليعلموا أن الدولة جادة فى توطيد تلك العلاقات. وهكذا قمنا بالرحلة بدعوة وترتيب مع السفير المصرى فى موسكو الدكتور محمد البدرى الذى سهل لنا التواصل مع كافة أطراف العملية الثقافية فى موسكو باسم مصر جميعها لا باسم نهضة مصر فقط، وكان الرفيق القادر على الترجمة وشرح الأبعاد مستشارنا الثقافى هناك الدكتور عاطف عبدالمعتمد.

وصلنا موسكو عصر الثلاثاء الماضى على رحلة «مصر للطيران»، تمنحك اللحظات الأولى فى موسكو الإحساس بحضور الدولة بقوة. فتشعر أنك فى بلد تتساوى نظافته واحترام القواعد فيه مع برودته السائدة بحكم المناخ، فيتملكك الإحساس بالصرامة المفروضة على الجميع. الدولة تفرض رؤيتها على طرز البناء وقواعد المرور وتخطيط الطرقات بقوة القانون، والطبيعة تفرض شروطها ببرودة تعلنها درجة الحرارة برقم صفر. والشعب حاضر مطيع ومُتكيف لكل من الدولة والطبيعة وما يفرضانه عليه من حسم ببراعة تدهشك. الجميع فى عمله منذ الثامنة صباحاً، عمال النظافة فى الطرقات من قبل السادسة فى الظلام يمنحون البلد حالة من الانضباط العسكرى تلحظه فى أسلوب العمل وأصوات أدواتهم المنتظمة. وسائل المواصلات كل فى خط سيره دون اعتداء أحدهم على طريق الآخر. الجميع يرتدى الملابس الثقيلة ويستمتع بمنظر الأشجار العارية من خضار الأوراق ويساعد فى رفع ما منحته للأرض من وريقات صفراء جافة. المشهد ببساطة متناغم، شعار الجميع فيه -رغم غزو العولمة الواضح فى محلات الأكل السريع وماركات السيارات الألمانية واليابانية- الهوية الحاضرة للدولة والشعب. تحيط بك فى كل طريق تسير فيه صورة وتمثال الفلاحة الروسية «ماتروشكا» كجزء لا يتجزأ من هوية روسيا.

يلفت نظرك هذا التناغم القوى فى طرز البناء فى طرقات موسكو بين القديم والحديث. ولكنك تتوقف أمام بعض من المبانى التى لا تعرف هل هى قديمة وتم تحديثها أم أنها حديثة على الطراز الأسطورى لتلك الدولة الغارقة فى هويتها؟ نعرف أن عدد تلك المبانى سبعة قرر «ستالين» بناءها فى الستينات من القرن الماضى حينما سمع النقد الأمريكى لموسكو لكونها لا تمتلك ناطحات سحاب كتلك التى تمتلكها أمريكا. فكان القرار ببناء سبعة مبانٍ مرتفعة بطرز البناء العتيق تم توزيعها على المؤسسات والوزارات الروسية. لا بد أن تتوقف أيضاً عند المواطن الروسى الذى صبغته الدولة بملامحها رغم ما مرت به من تطورات سياسية واقتصادية على مدار القرن الماضى. فمن إمبراطورية روسية انتهت بقيام الثورة البلشفية فى عام 1917، لمعقل الشيوعية فى العالم حتى عام 1991، إلى دولة تفتح أبوابها للرأسمالية منذ ذلك التاريخ فتواجه الانهيار الاقتصادى والإرهاب والتفكك السياسى بقوة. كل هذا ترك أثره على المواطن وفكره وسلوكه وجعله مدركاً لقيمة الإنتاج مقاوماً لشبح الاستهلاك متوائماً مع الوضع المالى لبلاده. وأستعين هنا بكلمات «إيرا» العاملة بمحل إقامتنا التى تجاوز عمرها 60 عاماً تقول: «أعمل هنا منذ 40 عاماً ولا يتجاوز راتبى حاجز 40 ألف روبيل -الدولار يساوى 6500 روبل- ولكننى سعيدة بما يحدث فى روسيا من تطوير وتحسين لظروف المعيشة على يد الرئيس بوتين. أنا أحبه كالكثيرين من الشعب الروسى، ولذا أتقن عملى رغم المشقة وأحرص على إرضاء الزائرين كى أترك فى نفوسهم ذكرى جميلة عن روسيا تدفعهم للعودة مجدداً. جميعنا يسعى لذلك، جميعنا يدرك ما يحيط بنا وما تبذله الدولة من مجهودات لرفع اسم روسيا والارتقاء بشعبها». تأملت كثيراً فى كلمات «إيرا» المخلصة رغم قلة الراتب واعتزازها ببلادها رغم قسوة الظروف وأدركت حاجتنا لبناء وتوعية الإنسان فى بلادى مصر التى يحسدنا الروس على شمسها التى فارقوها مُجبرين منتظرين العودة لها وقتما تسمح الظروف.

وللحديث بقية..
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف