الأخطر من الهجمة الغربية علي مصر هذا الاختراق في الداخل، وقد لا يصح حديث عن تعبئة وطنية، ولا عن اصطفاف شامل، بدون سد الخروق وإغلاق الثغرات، والتي تفرغ الجهد الوطني من طاقته الدافعة، وتحوله إلي ما يشبه القربة المقطوعة.
والقصة أكبر من اختراق عابر، بل هي مخطط شامل جري تنفيذه عبر عقود، وانتهي إلي احتلال فعلي لقرار السياسة والاقتصاد والثقافة، وكانت نقطة البدء فيه هي اتفاقية العار المعروفة باسم معاهدة السلام، والتي أعقبتها المعونة الأمريكية الضامنة، التي تضخمت بدور السفارة الأمريكية في القاهرة، وحولتها إلي ما يشبه دور المندوب السامي الجديد، ونسجت من حولها شبكة ارتباطات معقدة، صارت معها سفارة واشنطن هي الأكبر من نوعها في العالم إلي وقت قريب، وإلي أن جري احتلال العراق عسكريا، فصارت سفارة واشنطن في بغداد هي الأولي حجما، وحلت سفارتها بالقاهرة في المرتبة الثانية، وفي صورة نشاط متغلغل شمل 31 ألف أمريكي رسمي وشبه رسمي في القاهرة، فضلا عن محطة المخابرات المركزية الأولي في الشرق الأوسط، وعبر عقود توالت، كانت أجهزة المعونة الأمريكية تمدد نشاطها إلي كل أجهزة الدولة والمجال العام، وتراكم طبقات ولاء بالمصالح في أوساط الثقافة والسياسة والإعلام، وتملي اختيارات حكم انتهت إلي تخريب الاقتصاد، ونزع طابعه الإنتاجي، بتصفية القلاع الصناعية الكبري، وبالخصخصة التي تحولت إلي «مصمصة»، وبتوليد طائفة من المليارديرات الجدد، انتفخت بالتوكيلات وإرساء المناقصات بالأمر المباشر، وتضخمت ثرواتها من حجم النملة إلي حجم الفيل، وسرعان ما انعقد لهؤلاء وضع القيادة في «رأسمالية المحاسيب» الزاحفة، والتي تحالفت مع البيروقراطية الفاسدة في مزاد التحول العائلي للحكم، واستفادت بفوضي تداخلات السلطة والثروة والإعلام، وبرصيد ضغط إضافي شكلته الجماعات المدنية الممولة أجنبيا، وأمريكيا بالذات، فقد لعبت المعونة الرسمية دورها المرسوم في التكييف الهيكلي للاقتصاد، ولعب التمويل الأجنبي غير الرسمي دوره في التكييف الهيكلي للعقل والسياسة، وإلي أن تكون ما يمكن تسميته حزب «المارينز» نسبة إلي مشاة البحرية الأمريكية، ومع فارق بسيط، وهو أن مشاة «حزب المارينز» يحملون الجنسية المصرية وبطاقات الرقم القومي، ويتحركون بيننا كأنهم من قومنا، وتنطلق حملاتهم وضغوطهم في الوقت المناسب، وكما جري ويجري الآن، في أوسع موجة تهريب أموال لإنهاك الاقتصاد، وضغوط الإفراج الفوري عن حيتان الاقتصاد الفاسد، وحرق الأرض تحت أقدام نظام يبدو مرتبكا.
وقد لا يصح إنكار وجود سياسة رامية لكسب الاستقلال الوطني، واستعادة حرية القرار المصري، وبناء ركائز كبري تؤسس للنهوض، لكن هذه السياسة تعتمد بالأساس علي الجيش كمؤسسة وطنية راسخة، وعلي انضباطه وقدراته الهائلة، ومعدلات إنجازه السريعة العالية الكفاءة، وعلي قوة أذرعه الممتدة لنشاط اقتصادي واسع، يزاوج خطط الدفاع إلي خرائط الإنشاءات، ويزاوج صناعة السلاح إلي الصناعة المدنية، ويبني رأسمالية دولة جديدة قد تصح تسميتها برأسمالية الجيش، أو القطاع العام الجديد، الذي يستوعب في حركته ما قد يصل إلي مليون مهندس وفني وعامل مدني إلي الآن، وفي سياق سياسة خارجية نشطة، تضيف إلي قوة سلاح الجيش مددا عظيما، وتضاعف مقدرته علي صيانة أمن البلد، وتنوع في موارد الاقتصاد وجلب الاستثمارات، وتضعف الوزن التقليدي للاعتماد علي الأمريكيين، وتقلص التبعية الموروثة، ودون شفع السياسة الخارجية الحية ودور الجيش الممتاز بإجراءات داخلية مكافئة، وهو ما يؤدي إلي حالة اهتزاز وتضارب وارتباك، لا تجعل القاعدة الشعبية الواسعة طرفا في معركة كسب الاستقلال، وصياغة اقتصاد وطني جديد متحرر من سيطرة «رأسمالية المحاسيب»، والتي تواصل تربصها برأسمالية الجيش، وتسعي ـ بمعونة الضغط الأمريكي ـ لإفشال تجربة نهوض يقودها رئيس منتخب قادم من الجيش.
والمحصلة، أننا بصدد وضع يتسم بهشاشة ظاهرة، تبدو فيه النية خالصة للتقدم إلي نهوض جديد، لكن القوي المعوقة لاتزال في كامل عافيتها، ومع تردد ملحوظ في خوض معركة ضرورية علي الجبهة الداخلية، تدعم إمكانات الصمود في مواجهة الضغط الخارجي الممتد داخليا، وتكنس الفساد بالضربة القاضية، وتصفي نفوذ «تحالف المماليك» الحاكم المسيطر اقتصاديا وإعلاميا بالذات، فلا سبيل للتقدم الآمن بغير مذبحة شاملة لتحالف المماليك، تعزز سلامة الجبهة الداخلية، وتعبئ سواد المصريين من الفقراء والطبقات الوسطي، والذين يشكلون نحو تسعين بالمئة من الشعب المصري، لا يملكون سوي ربع الثروة الوطنية، بينما يملك واحد بالمئة من السكان نصف الثروة بالتمام والكمال، وشعب التسعين بالمئة هو الحصن الأعظم لأي حاكم يريد خدمة شعبه، ويريد استخلاص حرية القرار والاستقلال الوطني للبلد، شرط أن يكون انحياز الحكم لمصالحهم وأشواقهم خالصا ونهائيا، لا أن يضيع في هوة «البين بين»، ويترك نفسه عرضة لضغط خارجي يملك أدواته الداخلية، ولن يتورع عن الانتقال من الإنهاك والدهس الاقتصادي إلي «الأعمال القذرة»، وتدبير اغتيالات جرت محاولاتها وبروفاتها من قبل ومن بعد، ومن وراء أقنعة الإخوان والداعشيين، والذين هم الوجه الآخر لعملة الاختراق الأمريكي مع «رأسمالية المحاسيب».
نعم، البلد في حاجة إلي جراحة كبري، وإلي قطع الطريق علي الاختراق الأجنبي الأمريكي بالذات، وإلي تعبئة شاملة باختيارات سياسية واقتصادية جديدة، وإلي تصورات بالجملة لا تصرفات بالقطعة، إلي سياسة شاملة، تنهي الأوضاع الملتبسة، وترد علي مؤامرات الخارج بتحصين الداخل، وتعطي الأولوية للعدالة الاجتماعية وانتاجية الاقتصاد المستفل، وللتصنيع الشامل الذي هو قاطرة المستقبل، فقد تكون السياحة مهمة، لكن السياحة لا تبني بلدا بحجم مصر وبضراوة أوجاعها، الصناعة هي التي تبني وتعمر، وتخلق فوائض للتصدير، وتوفر فرص العمل لملايين العاطلين، بينما اقتصاد الريع، علي طريقة السياحة وغيرها، هو الذي يجعلنا نهبا لضغوط الخارج وتقلبات سياسته، ويجعلنا أسري لاختراقات أمريكا في الداخل ورأسمالية محاسيبها.