د/ شوقى علام
الحركات الإرهابية وشذوذ الفتوى
مَنْ يستقرئ أحوال تعامل الصحابة الكرام، بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، مع نصوص التشريع، يجزم بوجود منهجية منضبطة بضوابط مرعية، وبذلك لم توكل مهمة استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية لأى إنسان، بل كان ذلك لشخص توافرت فيه شروط معينة، تجعله قادرًا على أداء هذه المهمة، وليكون الاستنباط على وجهه المقصود للشارع.
ومن هذه الشروط مراعاة القطعى والظني، إذ الأول لا يقبل الاجتهاد؛ حيث لا اجتهاد مع النص القطعى الثبوت والدلالة، وهذه قاعدة لا يكاد ينفك عنها أيُّ نصٍّ، حتى إننا وجدنا القوانين المُطبَّقة تراعى هذه القاعدة بكلِّ دقةٍ.
وأما منطقة الظنى أو المجتهد فيه فهى من السَّعَة بمكان بحيث يمكن استيعاب كل القضايا والوقائع فى كل زمان ومكان، وهى سبب لمرونة الشريعة وصلاحيتها لكل العصور.
ومجال المجتهد فيه يصل الفقيه إلى الحكم عن طريق النظر فى الأدلة الشرعيَّة وبذل الجهد فيها حتى يغلب على ظنه أن ما انتهى إليه هو مقصود الشارع، وفى هذه الحالة يثاب على اجتهاده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب فله أجران»، وفى رواية عند الدارقطني: «إذا اجتهد فأصاب فله عشرة أجور». وهذا الذى انتهى إليه الفقهاء يمثل تراثًا فقهيًّا نفخر به ونعتز؛ لأنه نتاج عقل علمى منضبط أَثْرَى الحياة العلمية فى القرون الماضية وأسس حضارة لا يزال التاريخ شاهدا عليها، ونحن نرجع إلى ذلك التراث فى قضايا عديدة بضوابط شرعية معتبرة، وهو على اختلاف مدارسه حقل واسع للدراسة والنظر وبناء العقل العلمى وتكوين الملكات العلمية.
وفى هذا الإطار قد يعمد الفقيه إلى إثبات قواعده التى يستند إليها بضرب أمثلة وتفريعات؛ للبرهنة على وجود القاعدة وعلى المستثنيات منها؛ وقد يصل به الأمر إلى حد المبالغة فى إيراد فروع وأحكام هى محض افتراض ولا وجود لها فى الواقع، بل لا تقع أصلًا، وذلك كله من أجل التدريب العقلى على كيفية التعامل مع الأدلة الشرعيَّة للوصول إلى الحكم الشرعى للواقع المعيش.
فإذا ما انتهينا إلى هذا النظر فإنه لا يغيب عن بالنا أننا إذا أردنا أن نستفيد من هذا التراث العلمى الرصين بعد تكوين ملكاتنا العلمية التى تؤهلنا للاستفادة الحقيقية منه، فإننا نتجه به إلى الواقع، وفى إنزاله إلى الواقع وضبط المسائل والقضايا الحاصلة على وجه التحديد والتعيين، وهنا نحتاج إلى ملكات أخرى وتأهيل علمى لكيفية الوصول إلى الحكم الشرعي، يفوق كثيرًا تلك الملكة التى تكونت من الدرس والبحث والنظر.
ومما لا شك فيه أن ذلك من شأنه وضع مسألة الفتوى فى موضعها الصحيح، مما يعطى اطمئنانًا إلى الحكم الشرعى المستنبط فى كافة القضايا، والتى تحتاج إلى التأنى والتبصر فى شأنها، سواء عن طريق فهم واقعها وتصورها تصوُّرًا صحيحًا أو أخذ حكم شرعى لها من الأدلة الشرعية المعتبرة.
وعدم مراعاة ذلك، فضلا عن عدم تحققه، ينشئ خللا كبيرا فى فهم النصوص الشرعيَّة وتنزيلها على الواقع، بل إنه هو السبب الرئيس الذى أدى إلى التشدد والشذوذ فى الفتوى، ومن ثم الشطط فى الفكر، وكل ذلك أنتج عنفًا وإرهابًا وتخريبًا ودمارًا، بل هدمًا للبنيان الذى حماه الله سبحانه وتعالى وأمر بحمايته، وهو الإنسان. وما ينتج عن هذا الفكر المختل من فتاوى شاذة إنما كان بسبب تصدُّر غير المؤهلين، فضلًا عن التأويل الفاسد للنصوص الشرعيَّة لخدمة أغراض منافية لمقصود الشارع، مثل تأويلهم الفاسد لقوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»، (متفقٌ عليه)، فقد ذهبوا فى تأويل هذا الحديث إلى وجوب قتل كل من لم يكن مسلمًا، وذلك بتأويلهم الفاسد الكاسد لكلمة (الناس) أنها عامة تستغرق كل أحد لم يُسْلِم، بل قد غالى بعضُهم وذهب إلى أن كثيرًا من المسلمين الآن ليسوا على الإسلام الصحيح، وذلك فى نظرهم الفاسد؛ فوجب قتالهم كذلك.
وهذا كله شطط وانحراف لا يقبله عقل سويٌّ تربَّى على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى منهج العلماء المعتبرين،الذين بيَّنوا المنهج الصحيح فى فهم النصوص، وكيف لا نأخذ العامة بحكم الخاصة، حيث إن المراد من كلمة «الناس» فى هذا الحديث هم مشركو مكة وقتها، أى الذين كانوا يعتدون ويحاربون المسالمين. فـ (أل) هنا كما قال العلماء للعهد؛ أي: الناس المعهودين بالخطاب، وهم المشركون المحاربون المعتدون. وليست للاستغراق وعموم كل الناس. ومن ذلك يتجلى لنا أن فهم الحركات الإرهابية خال من الضوابط والقواعد الحاكمة لفهم النصوص، كما أن هذه الحركات المتأسلمة جعلت التطبيق المبنى على فهمهم المغلوط للمسائل حاكمًا على الدين، فظلموا أنفسهم حيث ظنوا أن تطبيقهم صحيح، وظلموا غيرهم عندما ضللوهم بهذا الفهم الفاسد:( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا)، (الكهف: 104).