الوطن
نشوى الحوفى
تذكار «عبدالمأمور» فى موسكو
فى مواجهة الكرملين وأمام ساحته الرئيسية فى موسكو يمكنك أن تشاهد مبنى قديماً من عهد الاتحاد السوفيتى يحتله الآن فندق «فورسيونز». تلحظ من الوهلة الأولى من وقوفك أمام المبنى العتيق اختلاف تصميم جناحه الأيسر عن تصميم جناحه الأيمن. سألت مرافقى الدكتور عاطف عبدالمعتمد، مستشارنا الثقافى فى موسكو عن الأمر، وما إذا كان متعمداً أم أنه جاء مصادفة؟ فأجابنى بقصة أدهشتنى وأدركت منها أننا لسنا وحدنا من يطبق سياسة «عبدالمأمور» الذى لا يتحرك إلا بتوجيهات الرئيس -أياً كان الرئيس- ولا يفعل شيئاً ولا يتخذ موقفاً إلا بناءً على توجيهات الرئيس -أيا كان الرئيس-!

القصة تقول يا سادة إنه عند بناء هذا المبنى فى عهد «يلتسين» رئيس الاتحاد السوفيتى وقتها، عرضوا عليه تصميم المبنى لأنه يواجه الكرملين لأخذ موافقته عليه، وقام مصمم المبنى بتصميم جناحى واجهته من اليمين واليسار بطرازين مختلفين ليختار منهما «يلتسين» ما يرتاح له أو يفضله. وعند عرض التصميم على «يلتسين» كان مشغولاً بمكالمة تليفونية وأمامه العديد من الأوراق للتوقيع، فوقع على التصميم بالموافقة كما هو دون أن يستمع لشرح أحد حول ضرورة الاختيار بين التصميمن ليتوحد شكل المبنى! وعندما عاد التصميم للمهندس الذى صممه طلب منهم إعادته للرئيس وشرح الموقف له لأنه لا يعقل أن يتم تصميم واجهتى مبنى بشكل مختلف. فخشى الجميع فعل ذلك وقالوا لقد اختار الرئيس كليهما وعليك تنفيذ رؤيته ووجهة نظره. وهكذا نفذ المهندس المبنى بواجهتين مختلفتين فى تصميمهما ورضى أن يظل المبنى رمزاً وتذكاراً لـ«عبدالمأمور» على أن يفعل الصحيح مهما كلفه الأمر من شرح.

استمعت للحكاية باسمة والتقطت صورة للفندق وتساءلت بينى وبين ذاتى وأنا أبتعد عنه: «من يصنع عبدالمأمور؟»، الخوف من المسئول -أياً كان المسئول- أم الخوف على فقد درجة القرب من المسئول، أم عدم الكفاءة الذى يرتضى بما يمليه المسئول؟ حقيقةً لا أعلم ربما لأننى لم أعش حياة «عبدالمأمور» فى أى موقف من مواقف حياتى، حيث لا أستطيع صمتاً على خطأ مهما كلفنى الأمر من مشقة أو تحديات وارثةً ذلك من أب آمن بالحق مهما كانت ردود الفعل، متيقناً أن الرزق بيد الخالق لا بيد المخلوق أياً كان. ولكننى لا أعرف كيف ينام ويعيش «عبدالمأمور» فى ظل مخالفته لقواعد الحقيقة أو الضمير لمجرد أن الآمر قال كلمة أو أمراً؟ ولا أعرف إن كان كل عبدالمأمور يعلم حقيقة ذاته أم أنه يظن أنه يفعل الصواب باتباع أوامر الآمر أياً كان حتى لو كانت خطأ؟ ولا أعلم كيف يجد «عبدالمأمور» طريقه فى عالم صناعة القرار فيصير دوماً من المقربين؟ فأى طامح للإنجاز والنجاح يعلم أن «عبدالمأمور» ليس بالقادر على مساعدته فى تحقيق ما يسعى له.

للأسف يوجد فى بلادى آلاف، بل ملايين، من عبيد المأمور ممن لا يناقشون قراراً ولا يحللون وجهة نظر ولا يلفتون نظر متخذ القرار لأبعاد تحيط بقراره أو إضافات تحتاجها رؤيته. يخشون على درجة قرب وإبعاد عن منصب يمنح النفوذ، وفقر كفاءة لا يؤهلهم إلا ليكونوا عبيداً لا يعرفون الحرية فى اتخاذ القرار وصناعة المجد واستقرار الضمير. لم يعتادوا التحليق فى دنيا الإبداع بعيون مفتوحة على الواقع، ولا امتلاك الخيال السياسى فى وضع حلول لمشكلات معقدة. فى بلادى عبيد للمأمور ينتظرون دوماً رؤيته وتوجيهه وأوامره حتى لو امتلكوا رأياً أو قناعة أو فهماً مخالفاً لأنهم ركنوا لحياة العبيد، ولذا فليسقط كل «عبدمأمور» حتى لو خلده مبنى «يلتسين».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف