الأهرام
السفير معصوم المرزوق
كلنا عبد الفتاح السيسى !
تصاعدت فى الآونة الأخيرة بشكل متكرر نداءات تطالب بـ «الاصطفاف الوطنى»، على أساس أن الوطن مستهدف بمؤامرات كونية تستهدف تدميره .

ومن المقطوع به أن مسألة «الاصطفاف» لا تتم بأوامر فوقية إلا عند رص صفوف للجند، أما الشعوب فلا تصطف وتتوحد إلا إذا شعرت بغريزتها أن أخطاراً وجودية تتهدد الوطن، ووجدت أن قيادتها تستحق بالفعل الاصطفاف خلفها ..

لقد شهدت فى مقتبل عمرى نكسة يونيو 1967، وهى محنة لا يعرف عمقها إلا من عاشوها فعلاً ، وكان رد الفعل التلقائى لنا هو «رفض الهزيمة» قبل أن يكون «التمسك بعبدالناصر»، لم يكن الاصطفاف خلف القيادة «بأى شكل»، والدليل على ذلك أننى كنت ضمن الآلاف الذين خرجوا فى مظاهرات تطالب بالتغيير وبإعادة محاكمة القادة العسكريين وعلى رأسهم قائد القوات الجوية ، ونهتف بسقوط دولة المخابرات ، وبالديمقراطية..

عندما التقى عبدالناصر بالشباب ، وعد بالتغيير الجذرى ، ووعد باقتلاع رموز الفساد فى دولة المخابرات، والتزم الرجل بوعده، وتقدم الصفوف فى زياراته للجبهة لإعادة بناء القوات المسلحة، وبلغ الحماس أشده حين ترك عدد كبير من طلبة الجامعة كلياتهم للالتحاق بالقوات المسلحة فى ذروة حرب الاستنزاف ، وكان ذلك قرارى أيضاً حين تركت كلية الهندسة بعد أن أمضيت بها عاماً كاملاً... كنا جميعاً كجيل نتزاحم كى نصطف، بل ولكى نكون فى أول صفوف الفداء...

رأس الدولة سواء كان رئيساً أو ملكاً يمثل رمزها وشرفها بصرف النظر عن قدره أو قدراته.. وقد عرفنا فى تاريخنا غضبة ضباط الجيش المصرى بسبب الإهانة التى تعرض لها الملك فاروق فى فبراير 1942 على يد قوات الاحتلال البريطانى، وربما كانت هذه الغضبة هى واحدة من أهم أسباب بناء تنظيم الضباط الأحرار، الذى قام فى النهاية بطرد ذلك الملك الفاسد..

وحتى لا يساء فهم الهدف من هذا المقال، يهمنى أن أذكر القارئ الكريم بموقفى النقدى الموضوعى لنظام الحكم فى مصر، وهو موقف مبدئى مارسته منذ شبابى المبكر ولم يستثن منه نظام، حتى عبدالناصر الذى لا أزلت أحترمه وأقدره حتى الآن.. ويمكن لمن يشاء أن يراجع ذلك فى كتابات منشورة لى منذ ذلك العهد البعيد..

«كلنا عبدالفتاح السيسى» ليست شعاراً حماسياً نزاحم به مهرجانات النفاق المنعقدة فى سرادقات الإعلام المختلفة، كما أنها ليست شيكاً على بياض لأى نظام أو أى رئيس..

«كلنا عبدالفتاح السيسى» عندما يوقن الجميع أو الأغلبية الساحقة أن النظام السياسى قد بدأ بالفعل فى اقتحام معاقل الفساد بلا خوف أو تردد ..

«كلنا عبدالفتاح السيسى» عندما يشعر كل مواطن بلا استثناء أنه يحيا فى أمن وكرامة، يتمتع بحماية دولة القانون لحقوقه وحرياته ..

«كلنا عبدالفتاح السيسى» عندما تطبق قواعد العدالة الانتقالية كى تنزع فتيل الاحتقان من المجتمع ، ولا يفلت القتلة واللصوص ومن أفسدوا حياتنا السياسية والإقتصادية من العقاب العادل ..

«كلنا عبدالفتاح السيسى» عندما تتضح رؤية متكاملة للعدالة الاجتماعية ترسم خارطة طريق جادة للقضاء على الفقر ..

«كلنا عبدالفتاح السيسى» إذا تمكن نظامه من تنظيف حقول الإعلام من ديدان النفاق، ونجح فى القضاء على دولة الإعلام الفاسد، مثلما نجح ناصر فى القضاء على دولة المخابرات...

تصادف أن التقيت ببعض الأجانب الذين يعملون فى مصر خلال الأسابيع الماضية، وكان بعضهم يتساءل عن «شعبية الرئيس»، وكانت إجابتى الثابتة هى أنه لايزال حتى الآن يتمتع بشعبية كبيرة، وأن أى محاولة من الخارج للضغط على الرئيس سوف تزيد من شعبيته لأن المصريين لن يقبلوا أبداً أى أسلوب غير لائق مع رمز البلاد ..

وأتذكر فى هذا المقام لقاء مع السيدة كاترين أشتون فى شهر مايو 2013 عندما كانت تقوم بزيارات مكوكية «للوساطة» بين جبهة الإنقاذ والرئيس السابق مرسى، عندما تحدثت بشكل قد يفهم منه قبولنا لإهانة الرئيس، قلت لها بشكل حاسم: «تذكرى أن الرئيس مرسى لا يزال رئيساً لمصر ولن نقبل أى إهانة له تحت أى ظرف ، رغم أننا لم نعد نريده رئيساً لنا.. إننا نختلف معه ولكننا لا نوافق على ممارسة أى ضغوط من الخارج عليه، لأن قرار عزله هو قرار يستقل به الشعب المصرى».. وقد عاتبنى مساعدها حينذاك - السفير برنارديندو ليون (والذى تولى عملية الوساطة فى ليبيا بعد ذلك) مؤكداً أن الليدى آشتون لم تكن تعنى إهانة الرئيس..

إن أسوأ ما يمكن فعله الآن هو ذلك الذى تقوم به بعض الفضائيات من شحن وتعبئة وتسخين، وهو ما يؤدى فى كثير من الأحيان إلى مواقف كوميدية، حين يتم التطبيل والتزمير مثلاً لروسيا والرئيس بوتين فى بداية أزمة الطائرة الروسية التى سقطت فى سيناء مع سيل من الشتائم لبريطانيا ورئيس وزرائها، ثم يتحول ذلك بعد أيام قلائل إلى انتقادات لروسيا ورئيسها بعد أن اتخذت الحكومة الروسية بعض الإجراءات الاحترازية ، ناهيك عن الخبراء الذين يشنفون آذان الناس كل ليلة بحكايات لا تنتهى عن المؤامرات التى تنعقد فى كل أركان المعمورة وهى تستهدف إسقاط الرئيس، ولا يفوت هؤلاء الخبراء أن يتذكروا أن مصر قوية جداً وأنها تستطيع أن تنازلهم فى ميادين الحرب وأن... إلخ ..

لذلك أيضاً لا أشك لحظة فى أن «كلنا سنكون عبدالفتاح السيسى» إذا كشرت الحكومة عن أنيابها لهذا الإعلام المنافق، وأثق أنه سيختفى داخل شرنقته فوراً لأنه بلا قضية، بل إنه أسوأ دعاية لأى نظام حكم شكلاً ومضموناً، وذلك لا يعنى بالطبع المطالبة بقصف أى قلم أو حجب أى فضائية، وإنما إرسال رسالة واضحة لهؤلاء بأن نظام الحكم فى غير حاجة لخدمات الدببة التى تقتل أصحابها.. بوضوح واختصار..

ولا يمكن أن أختتم هذا المقال دون أن أؤكد من ناحية أخرى ما سبق لى تأكيده فى مقالات عديدة سابقة، وهو أن هذا المجتمع فى حاجة ماسة كى يتصالح مع نفسه، وذلك يقتضى بالضرورة أن نفهم أن «المصالحة» ليست كلمة معيبة ، بل إنها واحدة من أهم مصطلحات السياسة التى تعد فريضة واجبة لأى نظام حكم فى أى دولة ، لكنها ولأسباب سبق لى شرحها لاتزال حتى الآن فريضة غائبة ...
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف