الوطن
جمال عبد الجواد
إذا لم نتعلم من هذه الأزمات فلن نتعلم أبداً
خمس أزمات كبيرة ضربت مصر خلال الشهر الأخير: سقوط الطائرة الروسية، والعواصف الممطرة فى الإسكندرية والبحيرة، والقبض على رجل الأعمال والناشر صلاح دياب، والقبض على حسام بهجت الصحفى المعروف بدفاعه عن حقوق الإنسان. حدوث الأزمات الأربع على خلفية أزمة اقتصادية ممتدة تأخذ فى هذه المرحلة شكل النقص الحاد فى العملة الأجنبية والارتفاع السريع للأسعار أطلق موجة عاتية من الإحساس بالإحباط والتشاؤم.

أزمة الطائرة تشير إلى أن أجهزة الأمن، رغم كل إنجازاتها والمشاق التى تتحملها، تترك وراءها ثغرات تسمح بنفاذ المجرمين. المؤكد أنه لا يوجد جهاز أمن قادر على سد كافة الثغرات، وما حدث فى باريس قبل أسبوع يشهد بذلك. لكن الفارق كبير بين أن يتمكن الإرهابيون من قتل الناس فى المقاهى والمسارح وملاعب الكرة وعلى الشواطئ وبين اختراق الإجراءات الأمنية فى منشأة تطبق فيها أعلى درجات التأمين. فى المعركة ضد الإرهاب لا توجد فرصة ثانية، ففرصة واحدة هى كل ما يحتاجه الإرهابيون لتحقيق هدفهم. التكنولوجيا الحديثة تساهم فى الحل، لكن إدارتها بنفس الطريقة التقليدية تقلل كثيراً من فاعليتها. زيادة عدد رجال الأمن ليس هو الحل، وإنما زيادة كفاءتهم والتزامهم بقواعد صارمة للانضباط والجدية هو الأساس. رجل الأمن الذى يحتفظ بتليفونه المحمول الخاص فى جيبه أثناء نوبة العمل هو ثغرة أمنية، ورجل الأمن الذى يستقبل الناس ويودعهم بابتسامة وتحية لزجة نفهم مغزاها نحن المصريين هو ثغرة أمنية، ورجل الأمن الذى ينطق بكلمات مثل «معلهش» أو «حصل خير» فى أى مناسبة هو ثغرة أمنية، ورجل الأمن الذى يدخل فى حوارات طويلة مع زميله الجالس بجواره أو مع أى شخص آخر أثناء نوبة العمل هو ثغرة أمنية، ورجل الأمن الذى يعتقد أن دقائق قليلة يقضيها بعيداً عن موقعه ليذهب إلى الحمام أو لتدخين سيجارة ليست بالشىء المهم هو ثغرة أمنية، وأى نظام أمنى لا يتعامل بجدية مع كل هذه الثغرات يصبح هو نفسه ثغرة أمنية.

لغز القبض على صلاح دياب وابنه ونشر صورهما مكبّلين مازال بلا حل حتى بعد إطلاق سراحهما. فى البداية صدر قرار حظر التصرف فى الأموال، ثم جاءت المداهمة فى ساعات الفجر، ليليها صدور قرار بالحبس التحفظى. ما بدا وكأنه قضية تتعلق بالمال العام انتهى إلى قضية حيازة سلاح، والتحفظ على الأموال تم قصره على أراضى «نيو جيزة» موضع النزاع، والحبس التحفظى تم إنهاؤه قبل أن يكتمل بعد أن عبّر الرئيس السيسى عن استيائه، فما هى القصة؟ لا أحد يعرف، ولكن الشىء الذى بتنا متأكدين منه هو أن كبار المستثمرين فى مصر باتوا أكثر تردداً فى ضخ مزيد من الاستثمارات بعد أن بدا الأمر وكأن الاستثمار فى هذا البلد هو ورطة من الأفضل تجنبها.

ما حدث مع حسام بهجت يشبه ما حدث مع صلاح دياب: قرار بالحبس الاحتياطى تم التراجع عنه بسرعة بعد اتضاح الآثار السلبية المترتبة عليه. حسام بهجت يقدم أرقى مستوى من التحقيقات الاستقصائية فى الصحافة المصرية مثلما يمتلك صلاح دياب واحدة من أفضل الصحف المصرية، فبدا الأمر كما لو كانت حرية التعبير هى المستهدفة بهذه الإجراءات. لا أحد يحلم ولا أحد يطالب بحرية مطلقة للتعبير، على الأقل فى ظروفنا الراهنة، ولكن لا أحد مستعد للتنازل عن تطبيق المبدأ والنص الدستورى القائل بأنه «لا عقوبة إلا بنص قانونى»، فإذا كان البعض من أهل السلطة يريد تحصين نطاقات وقضايا معينة ضد حرية التعبير، فليكن، ولكن عليه أولاً استصدار نص قانونى صريح يقضى بذلك.

أمطار الإسكندرية والبحيرة كشفت عورات البنية التحتية والإدارات المحلية المسئولة عنها. إقالة محافظ الإسكندرية لم تحل المشكلة، ولن تنحل مشكلة أى محافظة أو وزارة بتغيير المحافظ أو الوزير المسئول. البيروقراطية المصرية الكبيرة والفاسدة ومحدودة الكفاءة والذكاء قادرة على هزيمة أفضل العقول، وما لم يتم ترويض هذا الوحش الهائل فإنه كفيل بتدمير أى محاولة للإصلاح. ربع موازنة الدولة يذهب لدفع أجور موظفى الحكومة، وهم نفس الموظفين المسئولين عن القمامة المنتشرة فى الشوارع والتعليم منخفض المستوى والعشوائيات المنتشرة فى أنحاء مصر، فلا هم تركوا للدولة أموالها تنفقها فيما هو أنفع، ولا هم قاموا بعملهم، فأى عبث هذا؟

أزمة مصر الاقتصادية مزمنة ومعقدة ولم تعد سياسات التلفيق والترقيع تصلح معها. المصريون يستهلكون أكثر مما ينتجون ولا حل إلا بإطلاق كل الطاقات المنتجة فى هذا البلد. بيروقراطية التصاريح والتراخيص وغابة التشريعات المعقدة والمتناقضة تكبّل المنتجين، ولا حل إلا بتحرير المنتجين من هذه القيود. الدفاع عن سعر صرف الجنيه معركة خاسرة تستنزف رصيدنا المحدود من العملات الأجنبية، ولا حل إلا بتحرير، ولو تدريجى، لسعر الصرف. لا يستطيع مشروع مهما كبر حجمه توفير احتياجات تسعين مليون مصرى، ولا حل إلا بتمكين الناس من إنتاج رزقهم بأنفسهم فى مشروعاتهم الصغيرة والمتوسطة.

التزامن بين الأزمات الخمس أشاع إحساساً بالتشاؤم لدى كثرة من المواطنين، وفى ظل الإحساس بالتشاؤم واليأس من الإصلاح تنفتح الأبواب لمزيد من التدهور والأزمات وتتاح الفرصة للمغامرين من كل لون للنفاذ إلى العقول والقلوب. تزامن الأزمات الخمس يطلق نوبة صحيان علنا نستفيق، فإن لم تكن الأزمات المتزامنة كافية لردنا عما نحن فيه فلا شىء على وجه الأرض سيمكنه ذلك، فمن لا يتعلم من توالى الأزمات لا أمل فى أن يتعلم شيئاً.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف