الأهرام
يوسف القعيد
. وانتخابات «زقاق المدق»
وبعد عشر سنوات من صدور رواية: يوميات نائب فى الأرياف لتوفيق الحكيم. نُشرت لنجيب محفوظ 1947 روايته: زقاق المدق. كان نجيب محفوظ فى السادسة والثلاثين من عمره. والرواية التى سبقتها كانت: خان الخليلي. نشرها 1946، والرواية التى لحقت بها كانت: السراب. 1948. وبعدها بداية ونهاية 1949. إلى أن أصدر بين القصرين 1956. وكان قد بدأ كتابتها 1949. لكن تأخير نشرها حكاية أخرى قد تأخذنا بعيداً عما نحن بصدده.
زقاق المدق مكان موجود. زقاق صغير. ولو ذهبت إليه ستكتشف أنه مساحة محدودة. ولحظة دخولك إليه ستصاب بالذهول أن الرجل استطاع أن يستخرج من هذا المكان الضيق آفاقاً غير محدودة عندما كتب روايته عنه. وسمَّاها بنفس الاسم المعروف به فى الواقع.

ورغم عزلة الزقاق عن العالم الخارجى التى يؤكدها نجيب محفوظ أكثر من مرة من خلال سلوك الأبطال. أو الذين ليسوا أبطالاً. إلا أن الانتخابات تطرق أبوابه فى الفصل التاسع عشر. ومن دلالات ورموز فعل الانتخابات الذى يؤثر على أحداث الرواية. تأتى الانتخابات بفرج إبراهيم. القواد الذى أخذ حميدة من حياة الزقاق الضيقة إلى الدنيا الجديدة. ثم ضاعت ولم تعد إلى الزقاق. وإن كانت تعود فى الفيلم السينمائى ميتة، بعد أن تقتل فى منطقة وسط القاهرة.

فى الفصل 19 من الرواية. أى حوالى منتصفها التى تقع فى 35 فصلاً. نقرأ وصفاً انتخابياً يكاد يلتهم الفصل، نقرأ فيه استيقاظ الزقاق ذات صباح على صخب وضوضاء. ورأى أهله رجالاً يقيمون سرادقاً على أرض خراب بالصنادقية فيما يواجه الزقاق، وانزعج عم كامل بائع البسبوسة. وظنه سرادق ميت فهتف بصوته الرفيع «إنا لله وإنا إليه راجعون، يا فتاح يا عليم يارب» ونادى غلاماً من عرض الطريق وسأله عن المتوفي، ولكن الغلام قال له ضاحكاً: ليس السرادق لميت، ولكنها حفلة انتخابية!.

فهز عم كامل رأسه وغمغم «سعد وعدلى مرة أخري!» وكان الرجل لا يدرى شيئاً عن عالم السياسة، إن هو إلا إسم أو إسمان يحفظهما دون أن يفقه لهما معني. أجل إنه يعلق فى صدر محله صورة كبرى لمصطفى النحاس، ولكن كان ذلك لأن عباس الحلو ابتاع يوماً صورتين للزعيم ثبت إحداهما فى الصالون وأهدى الأخرى لصاحبه، وراح الرجل يرمق العمال العاكفين على عملهم بإنكار وقد توقع يوماً صاخباً مرهقاً.

ومضى السرادق يتكون جزءاً جزءاً، فنصبت الأعمدة، ووصلت بالطنب ومدت عليها الستائر، وفرشت الأرض بالرمل، وصفت المقاعد على جانبى ممر ضيق إلى مسرح أقيم فى الداخل عالياً، ورُكِّبَتْ مكبرات الصوت على مفارق الطريق بين الحسين والغورية، وفى أعلى المسرح علقت صورة كبرى لرئيس الحكومة، وألصقت بها من تحت صورة المرشح فرحات الذى تعرفه أكثرية أهل الحى لأنه كان تاجراً بالنحاسين. ودار فتيان بإعلانات وجعلوا يلصقونها بالجدران وقد سطر عليها بألوان زاهية: انتخبوا نائبكم الحر إبراهيم فرحات/ على مبادئ سعـد الأصلية/ زهـق عهــد الظلم والعري/ وجاء عهد العدل والكساء.

وأرادوا أن يلصقوا إعلاناً بدكان عم كامل، ولكن الرجل الذى ترك غياب عباس الحلو فى نفسه أسوأ الأثر تصدى لهم ساخطاً وهو يقول:

- ليس هنا يا أولاد الحلال، هذا شؤم يقطع الرزق..

فقال له أحدهم ضاحكاً:

- بل تجلب الرزق. وإذا رآها حضرة المرشح اليوم ابتاع بسبوستك بالجملة، وأعطاك الثمن مضاعفاً وعليه قبلة.

ثم جاءت على أثره جماعات من الغلمان تسير وراء أفندى مرددة هتافات عالية، كان يصيح بصوت كالرعد «من نائبنا؟».. فيجيبونه بصوت واحد «إبراهيم فرحات» فيهتف ثانية «من ابن الدائرة؟» فيهتفون «إبراهيم فرحات» قام بدور إبراهيم فرحات فى الفيلم السينمائى الذى أخرجه حسن الإمام عن الرواية. وكتب له السيناريو والحوار: سعد الدين وهبة، الممثل الكوميدى محمد شوقي، تجمع الناس حوله. امتلأ بهم الطريق، وتسرب منهم كثيرون إلى السرادق. وجعل المرشح يرد الهتافات برفع يديه إلى رأسه.

ثم اتجه نحو الزقاق تتبعه بطانته وجلها من رافعى الأثقال بنادى الدراسة الرياضي. واقترب من الحلاق العجوز الذى حل محل الحلو. لأن عباس الحلو كان قد ترك الزقاق ورحل للعمل مع الجيش الإنجليزى حتى يحقق حلمه بالزواج من حميدة. ويخرج من دائرة الفقر ويعود ليجدها فى انتظاره ومعه المال الذى يحل مشكلته. ومد المرشح يده للحلاق العجوز وهو يقول «السلام عليك يا أخا العرب». فانحنى الرجل على يده فى استحياء وترحيب، وتحول عنه إلى عم كامل قائلاً: ألا تتجشم مشقة النهوض، حلفتك بالحسين إلا ما لزمت مكانك. كيف حالك.. الله أكبر.. الله أكبر.

ثم أكمل: هذه بسبوسة فريدة، وسيعرف الناس جميعاً قدرها هذه الليلة.. وتقدم مسلماً على كل من لاقاه، حتى انتهى إلى قهوة كرشة، فحيا المعلم، وجلس ودعا رفاقه للجلوس، واستبق إلى القهوة كثيرون حتى جعده الفران وزيطة صانع العاهات. وردد المرشح نظره بين الحاضرين فى سرور، ثم قال مخاطباً المعلم كرشة:

- قدم الشاى للجميع.

وابتسم تحية لكلمات الشكر التى تناثرت عليه من كل حدب وصوب ثم التفت صوب المعلم قائلاً:

- أرجو أن تقوم القهوة بتقديم ما يحتاجه السرادق من الطلبات..

فقال المعلم كرشة بشيء من الفتور:

- نحن فى الخدمة يا سى السيد..

ولم يغب عن المرشح فتوره، فقال برقة:

- نحن جميعاً أبناء حى واحد، وكلنا إخوان..!

كانت المقاهى تلعب دوراً أساسياً فى المعارك الانتخابية. ربما كانت المكان الوحيد الذى يقابل فيه المرشح ناخبيه. يجلسون حوله بعد أن يتحول المقهى لمكان يقدم فيه المرشح نفسه للحاضرين بعد أن يعزمهم جميعاً على الطلبات التى يقدمها لهم.

هكذا كانت انتخابات الأربعينيات من القرن الماضى تقوم على فكرة الاتصال الشخصي. التى تعد أساساً للتأثير فى الناخبين. لم تكن الحياة قد عرفت ما جرى عليها من تغييرات. لا توجد وسائل إعلام ولا فضائيات ولا فضاء إليكترونى يلجأ إليها المرشح يشرح برنامجه. وحتى الصحف لم تكن تفرد صفحات كثيرة للمرشحين لكى يقولوا ما لديهم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف