د. نصر محمد عارف
لماذا لم تنجح محاولات إصلاح التعليم فى العالم العربى؟
منذ أكثر من نصف قرن دخلت معظم الدول العربية فى محاولات متعددة لاصلاح نظم التعليم فيها، سواء التعليم ماقبل الجامعى أو التعليم الجامعي، وللأسف كانت النتائج دون التوقعات فى بعضها، وكارثية فى معظمها، ولم تشهد أى من الدول العربية اختراقاً حقيقياً فى نظمها التعليمية، ولم تزل مخرجات العملية التعليمية لا ترتقى الى طموحات دولها فى التنمية الشاملة المستدامة، القادرة على تحقيق النهوض الحضارى الذى يعيد للأمة موقعها التاريخى بين الأمم، ويمكنها من الانخراط فى العالم المعاصر بصورة فعالة وتشاركية.
وحيث إن العالم قد استقر على أن قياس نجاح أى نظام تعليمى يتم من خلال مستوى مخرجات هذا النظام؛ ممثلة فى مستوى مهارات وقدرات وامكانات الخريجين، واذا نظرنا الى مخرجات العملية التعليمية فى معظم الدول العربية وأولها مصر؛ سنجد للأسف كانت تلك المخرجات مذهلة فى سلبياتها وانتكاساتها، حيث ضعف القدرات وضعف الامكانات، وعدم مناسبة مستويات الخريجين لمتطلبات سوق العمل، واحتياجات التنمية، وكان نتيجة لذلك أن تراجعت الأمة العربية الى عصور التخلف والانحطاط التى كانت نادرة الحدوث فى تاريخها، فكان التخلف الاقتصادي، والتراجع التنموى الناشئ عن عدم وجود أفكار وابتكارات، وعقول قادرة على قيادة الدولة والمجتمع وسوق العمل العام والخاص، حيث الضعف العقلى والمهارى عام يشمل منظومة المجتمع بكاملها، الذين يملكون والذين لا يملكون، فكان الاقتصاد إما ريعيا وإما هامشيا يعتمد على السياحة والخدمات، وانتاج السلع الهامشية، وفى غالبته اقتصاد الوسطاء الذى تسيطر عليه طبقة التجار من المستوردين والوكلاء، ومن جانب آخر ظهرت تنظيمات القاعدة وداعش وأنصار الشرعية وبيت المقدس وبوكوحرام.الخ من تنظيمات ينخرط فيها شباب تخرج فى المدارس والجامعات العربية؛ بعد أن فشل فى شق طريق الحياة فى الدنيا بدأ يبحث عن طرق الموت عله يفوز بحياة أفضل فى الآخرة، ولأنه نتاج نظام تعليمى فاشل لم يفهم أنه بالانخراط فى هذه التنظيمات الارهابية سوف يخسر الدنيا والآخرة.
ويكفى لأى باحث أو متابع للواقع التعليمى العربى أن يتخذ من ظاهرة الارهاب والعنف الهمجى دليلاً على فشل النظام التعليمى العربى فى تكوين انسان قادر على أن يعيش العصر متمسكا بهويته مثلما تفعل شعوب آخرى مثل الصينيين والهنود وغيرهما، فلأول مرة فى تاريخ أمتنا تشهد مثل هذه الظواهر بين شباب من خريجى الجامعات، وهنا لا يحتج بأن هناك من الأوروبيين من انخرطوا فى داعش، لأن هؤلاء -كما تقول الدراسات- جاءوا من أسر مفككة وخلفيات مرضية، وليسوا بمستوى الظاهرة لأنهم عدة آلاف فى وسط ملايين من الدواعش والمتدعشنين العرب؛ سواء أكانوا من تنظيم القاعدة وبناتها فى داعش وأنصار الشريعة وأنصار بيت المقدس.إلخ، أم من الحشد الشعبى فى العراق الذى ينافس داعش فى الفظاعة والاجرام لولا غطاء دينى من مؤسسة دينية لا تاريخية ولا جغرافية تنتمى الى الطائفة ولا تنتمى الى الوطن، أو من الحوثيين الذين يمارسون القتل والانتحار العبثى لغاية لا يعرفون منها سوى تحقيق طموح السيد القابع فى ضحيان فى صعدة.
وهنا يثور السؤال: أى نظم تعليمية سمحت لشباب قادر على التعامل مع وسائل العصر ويختار طواعية الانضمام الى هذه التنظيمات الوحشية التى ترتكب أفعالاً لا تحدث فى الغابات؟ وماهى الثقافة التى شكلت عقول وقلوب هؤلاء الشباب؟ أى مناهج تعلمها هؤلاء؟ أين الخلل فى منظومة التعليم العربي؟
وهنا تحتاج الدول العربية الى النظر فى جذور أزمة التعليم فى العالم العربي، وتبحث بمبضع الجراح فى أهم الإشكاليات الكبرى التى صنعت هذه الأزمة، وحالت دون اصلاحها، وأفشلت كل محاولات الاصلاح، وهنا يمكن أن نشير الى ثلاث قضايا كبرى هى الأولى بالاهتمام هي:
أولا: الارتباك فى التعامل مع التراث العربى والاسلامي؛ بالصورة التى حولت ذلك التراث بكل تجلياته من مصدر للالهام العلمى والفكري، والقيم الثقافية والاجتماعية الى منجم للكوارث والأفكار الميتة التى أربكت حركة الأمة، وشتتتها وأفقدتها البوصلة، وقادتها الى حالة التيه التى أفقدتها وجهة المستقبل، هذا التراث العظيم تحول الى عائق لنا من الدخول فى المستقبل؛ لأننا فشلنا فى التعامل معه، وفهم كيفية الاستفادة منه فى بناء حاضرنا، والتخطيط لمستقبلنا، دون أن نقع فى شراك خلافاته ومشكلاته التاريخية التى لا علاقة لها بالدين أو الثقافة؛ لأنها كانت ناتجة من تفاعل تلك المجتمعات مع زمانها ومكانها.
ثانيا: عدم القدرة على الاستفادة من معطيات العصر، وما يقدمه من علوم وفنون ووسائل تمكن الانسان العربى من أن يعيش عصره متفاعلاً مع العالم دون أن يفقد قيمه وهويته وثقافته، هذه الحالة جعلت نظم التعليم فى العالم العربى غير قادرة على الاستفادة من تجارب العالم ومناهجه وعلومه بالصورة التى تجمع فى توازن بين الحفاظ على الذات والتعاطى بايجابية مع الآخر، فقد وقع العقل العربى فى ثنائيات الأصالة والمعاصرة، والتقليدية والحداثة، والأنا والآخر، تلك الثنائيات أربكت العقل العربى وشوهت نظم التعليم فى العالم العربي، فلم تستطع الاستفادة من علوم العصر بالصورة الكاملة بسبب مجموعة من العقد الثقافية والفكرية التى عرقلت الدخول فى علوم العصر بنفس المنهجية التى تعامل بها المسلمون فى القرن الثانى الهجرى فى علوم الفرس واليونان والهنود.
ثالثاً: افتقاد الرؤية طويلة الأجل فى خطط تطوير واصلاح نظم التعليم؛ مما أدى الى الدخول فى محاولات متتالية من التجربة والخطأ، وحدوث حالة من شخصنة العملية التعليمية وجعلها ملكا للوزير المختص الذى يسعى غالبا الى هدم كل ما كان قبله والبدء من جديد، بصورة حولت أجيالا من الشباب العربى الى حقل تجارب لنظم لم يتم اختبارها ولم تأخذ فرصتها فى الانضاج والتطوير، ولم تستطع أى دولة عربية وضع خطة تعليمية طويلة المدي، الجميع اما حالة من العبثية وانعدام التخطيط، أو تخطيط قصير المدى لا يستمر طويلا حتى تظهر خطة أخرى قبل اكتمال الخطة الأولي.
هذه الاشكاليات الثلاث تحتاج الى تناول معمق يبحث فى جذورها ويحلل تداعياتها وامتداداتها ونتائجها، ومن ثم يمكن الدخول فى القضايا الفرعية المنبثقة عنها، وهذا يحتاج بدوره الى نقاش مجتمعى عام تشارك فيه كل العقول القادرة على العطاء، والمشغولة بمستقبل أوطانها، أما قضايا التمويل وتدريب المدرسين وتطوير المناهج فهى مسألة فرعية بالنسبة لاستراتيجيات تعليم طويلة الأمد، ولعل الجامعة العربية تنشغل بأمر ايجابى من خلال فتح ملف التعليم فى العالم العربى والعمل على وضع استراتيجية شاملة تسقطها كل دولة على خصوصياتها.