الأخبار
عبد الحليم قنديل
الغزوة النووية
أختلف بشدة مع اختيارات الرئيس السيسي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الداخلية الراهنة ، وهي قابلة للتطور والمراجعة فيما نري ، وأؤيد بشدة أعظم اختياراته الوطنية ، وسعيه لاستعادة الاستقلال الوطني ، وتحرير القرار المصري من التبعية الموروثة للأمريكيين ، وكسر احتكار واشنطن لتسليح الجيش المصري ، وتنويع مصادر السلاح المتطور، وإنهاض صناعة السلاح الذاتية ، وتعظيم قوة الجيش المصري ، وزحف الجيش دهسا لمناطق نزع السلاح في سيناء ، واستئناف المشروع النووي المصري بعد توقف دام لأربعين سنة ، وعقد اتفاق الضبعة النووي مع الروس ، والذي يبني أربع محطات نووية لتوليد الكهرباء دفعة واحدة ، فضلا عن المشاركة في التصنيع والمعرفة النووية ، وهو بالفعل ـ كما قال الرئيس ـ أعظم مشروع وطني مصري منذ بناء السد العالي .
وقد كانت هناك دائما علاقة طردية بين الاستقلال الوطني ومشروع مصر النووي ، فبعد مرور عام واحد علي توقيع اتفاقية جلاء المحتل البريطاني أواسط 1954، قرر القائد جمال عبد الناصر إنشاء لجنة الطاقة الذرية المصرية عام 1955، والتي تحولت بعدها بعامين إلي هيئة الطاقة الذرية ، وبدأ مفاعل «أنشاص» الذري للأبحاث في العمل عام 1961، وجري إنشاء قسم الهندسة النووية بجامعة الإسكندرية عام 1963، وتطور الاهتمام الجدي بالتخصص ذاته مع إنشاء الكلية الفنية العسكرية ، وتطورت عملية إيفاد البعثات ، وبناء قاعدة علمية واسعة ، وجرت الدراسات الأولي لإنشاء أول محطة نووية في منطقة «سيدي كرير» أواسط الستينيات ، ثم تجمد المشروعان النووي والفضائي لبعض الوقت مع هزيمة 1967، وما صاحبها من شح الموارد المالية ، وتوجيه غالب الموارد المتاحة للمجهود الحربي وإعادة بناء الجيش ، وبعد حرب العبور في أكتوبر 1973، وتيسر الأحوال المالية مع تدفق المعونات العربية علي مصر ، بدا أن الفرصة متاحة مجددا لاستئناف المشروع النووي ، وأعلن الرئيس السادات بالفعل عن تجهيز منطقة المحطة النووية في «سيدي كرير» عام 1974، وجري طرح المناقصات العالمية للتنفيذ ، لكن السياسة التي خذلت نصر السلاح ، خذلت المشروع النووي أيضا ، وارتعب السادات من غضب أمريكا التي طلبت حق التفتيش ، ثم أعلن السادات بنفسه وقف المشروع مع مفاوضات «كامب ديفيد» عام 1978، كان الاستقلال الوطني المصري يضيع ، وكانت السفارة الأمريكية تتحول إلي دار للمندوب السامي الجديد الوريث للاحتلال البريطاني القديم ، ولم تعد من فرصة لحرية القرار المصري ، وهو ما كان له أثره المباشر الصادم زمن حكم مبارك البليد الراكد ، وهو ما يفسر فشل محاولات استئناف المشروع النووي ، فقد ترك مبارك أرض «سيدي كرير» التي تحولت إلي منطقة سياحية أواخر عهد سلفه السادات ، وأصدر عام 1981 قرارا بتخصيص أرض «الضبعة» لمشروع المحطات النووية ، وجري تكليف شركة فرنسية بإعداد دراسات تكلفت 500 مليون جنيه بأسعار وقتها ، وجري مجددا طرح المناقصات العالمية للتنفيذ في السنوات اللاحقة ، لكن حذاء أمريكا الثقيل دهس المشروع مجددا ، وأعلن بنك التصدير والاستيراد الأمريكي توقفه عن ضمان التمويل ، بدعوي ضعف الاقتصاد المصري ، وهي ذات الحجة الساقطة التي استخدمها البنك الدولي لإعاقة مشروع بناء السد العالي ، لكن عبد الناصر كان قد رحل قبلها بزمن ، ولم يعد في مصر غير مبارك الخاضع بلا قيد ولا شرط للرغبات والأوامر الأمريكية ، والذي كلف إعلامه المريض الببغائي بالترويج لوقف مشروع المحطات النووية نهائيا ، وبدعوي الخوف من آثار وبيلة تشبه ما جري وقتها مع انفجار محطة «تشرنوبيل» الأوكرانية، ولم يعد المشروع بعدها للتداول إلا علي سبيل التلاعب بحلم المصريين النووي ، وبالتواقت مع تعديلات الدستور علي المقاس العائلي في عام 2007، وهي التعديلات التي أرادت التمهيد لتوريث الحكم من الأب إلي نجله جمال، والذي ظهر مع أبيه علي منصة احتفال أقيم علي عجل بمحطة كهرباء شمال القاهرة ، أعلن فيه الأب عن نية إقامة محطة نووية في منطقة «الضبعة» ، ولم يصدقه أحد هذه المرة ، ولا صدق ابنه جمال مبارك ، الذي سعي مع مليارديراته لتحويل «الضبعة» إلي منطقة فنادق سياحية ، وهو ما أحبطه الجيش الذي تعمد إقامة مناورات عسكرية بالقرب من «الضبعة» ، وإلي أن جري خلع مبارك وابنه بالثورة الشعبية ، وجري تبديد ونهب منشآت «الضبعة» مع الانفلات الأمني الذي أعقبها ، وحاول حكم الإخوان أن يقنن عملية إفناء «الضبعة» كسبا لرضا الأمريكيين ، وأعلن عالم الإخوان الجيولوجي د . خالد عبد القادر عودة عن عدم الحاجة إلي منطقة «الضبعة» النووية ، ونصح بتوزيع الأراضي علي الأهالي كسبا لأصواتهم في الانتخابات ، وكادت تنتهي معالم القصة كلها ، لولا أن ثار الشعب علي حكم الإخوان الموالي للأمريكيين ، واسترد الجيش منطقة «الضبعة» ، وبدأت تهيئتها من جديد للمشروع الذي داعب خيال المصريين عبر ستين سنة مضت .
وقد يتخوف البعض من تكرار الانتكاسات هذه المرة أيضا ، وهو ما لا نرجحه ، فلا يلدغ المؤمن من الجحر نفسه مرتين ، فما بالك ، وقد لدغنا مرات ، وعرفنا أن استعادة استقلالنا وحرية قرارنا هي حجر الزاوية ، وقد استعادت مصر عناصر جوهرية من حرية قرارها ، وقطعت أشواطا هائلة في كسب استقلالها المضيع ، ونفضت عن روحها غبار وأوهام التبعية للأمريكيين ، وصارت تدرك أن «العلاقات الخاصة» ـ إياها ـ هي التي أورثت مصر انحطاطها التاريخي الممتد لأربعين سنة ، هي ذاتها سنوات انحطاط وتداعي ودفن الحلم النووي ، وقد آن للمصريين أن يدركوا الحقيقة العارية ، وهي أننا نمضي في طريق ليس منه رجوع ، نواجه فيه ضغوط الخارج وأعوانه في الداخل ، وأن المشروع النووي أكبر من إقامة محطات لتوليد الكهرباء ، وأننا بصدد فتوح علمية ومعرفة نووية حجبت عنا طويلا ، وبصدد كسب دورة الوقود النووي ، وتخصيب اليورانيوم لأغراض النفع السلمي ، وهذا حقنا الذي لا تمنعه الاتفاقات الدولية ، فقد لا نريد صناعة قنابل ذرية ، ولدينا حق الردع الكيماوي والصاروخي بامتياز ، ولدينا جيش يسد عين الشمس ، ونملك أن نحمي المشروع النووي كما نحمي السد العالي ، وأن نقتحم المستحيل بالغزوة النووية .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف