المساء
مؤمن الهباء
مأساة الطريق الزراعي
لو أخذك حظك العاثر إلي رحلة عبر طريق مصر اسكندرية الزراعي هذه الأيام فسوف تعرف كيف يكون التعذيب داخل سيارة.. وكيف تكون الثواني جمرات في دمك.. وكيف تمر الساعة وكأنها الدهر كله داخل سجن من طوابير السيارات المحشورة إلي جانب بعضها.. فلا تستطيع أن تتقدم أو تتأخر.
مررت بالتجربة مساء الخميس الماضي.. حين كنت أمني النفس برحلة ممتعة إلي قريتي في محافظة القليوبية.. المسافة من بيتي بالجيزة إلي القرية في الظروف العادية التي نلتزم فيها بضوابط المرور والسرعة لا تستغرق أكثر من 40 دقيقة عبر الطريق الدائري.. لكن هذه الرحلة البائسة استغرقت أكثر من أربع ساعات.. عانيت فيها - مثل كل الناس - أشد المعاناة.. ورأيت فيها العجب.. ومع ذلك لم يسأل فينا أحد.. ولم نشاهد شرطيا واحدا من قوات الحماية والإنقاذ ونقاط المرور علي الطريق.. لم يكن لنا صاحب.. وكان كل ما نملكه هو الدعاء والشكوي من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
منذ بداية المرحلة لاحظنا سيطرة سيارات النقل الثقيل "التريللا" علي الطريق.. فهي تنطلق كالغول المتوحش عندما يكون الطريق مفتوحا.. وتسير في أقصي اليسار مخالفة قواعد المرور المعروفة في العالم كله.. وربما يكون لها بعض العذر في ذلك.. فقد منعت من السير علي طريق مصر اسكندرية الصحراوي بقرار قديم لا أدري إن كان ساريا حتي الآن أم لا.. وكان الهدف منه ألا تسبب إزعاجا للباشوات الكبار الذين يريدون طرقا واسعة مفتوحة لا تضايقهم فيها التريللات ولا تهدد حياتهم.. لكن ليس هناك ما يمنع من أن تزاحم الغلابة علي الطريق الزراعي وتهدد حياتهم.. وأذكر أنني كتبت حين صدر ذلك القرار العجيب مقالا بعنوان "طريق الكباش" علي اعتبار أن الذين يموتون في حوادث الطريق الزراعي والذين سيموتون مجرد أعداد مثل الخرفان والكباش لا تهم أحدا.. لأنهم ليسوا من ذوي المال والأعمال والنفوذ في هذا البلد.
قطعت المسافة إلي ما بعد كوبري قليوب بقليل - حوالي 15 كيلومترا - في حوالي ساعة.. يتوقف الطريق خلالها بعض الوقت ويتحرك بعض الوقت.. وهذه المسافة في المعتاد لا تستغرق أكثر من ثلث الساعة.. ثم توقف الطريق تماما.. واستقرت السيارات في أماكنها حوالي ساعتين.. انطلقت صيحات الاستغاثة ومكالمات التليفون.. وكلما طال الوقت ازداد التوتر والقلق وانفلتت الألسنة باللعنات والشتائم.. خرج الركاب من السيارات والميكروباصات والأتوبيسات والتريللات ليستطلعوا الأمر.. وجلس بعضهم علي الأرصفة وافترش بعضهم الأرض.. وظهر من يبيع أكواب الشاي وزجاجات المياه.. وظهرت الشيشة.. والناس تتسلي وسط المأساة.. فلا أحد يسأل عنهم ولا أحد يعرف سبب هذا التوقف الطويل في ساعات الليل الأولي.. وفيهم الضعيف والمريض وذو الحاجة.
تكاثرت الأسئلة والإجابة واحدة: "التريللا انقلبت بالأسمنت علي الطريق.. أو حدث تصادم كبير".. ثم كان السؤال التالي: ولو افترضنا أن شيئا من ذلك حدث هل يستغرق الأمر ساعتين؟! هذا معناه أن المسئولية منعدمة تماما علي هذا الطريق البائس.
بعد الساعتين تحركت السيارات بطيئة حزينة.. تسير دقيقة وتتوقف ثلاثا.. وهي متراصة متلاصقة.. السائقون يزمجرون والركاب مقهورون.. والغضب علي الوجوه.. وكلهم معذورون فلا ذنب لأحد منا فيما نحن فيه.
حين سألت صديقا مسئولا عن سبب هذا الذي حدث قال ضاحكا: لا تغضب هذا يحدث كل يوم وكل وقت.. الطريق صار ضيقا علي حجم الحركة التي تمر عليه.. وقد بدأ العمل في الطريق البديل.. الطريق الحر الجديد من القاهرة إلي بنها لكي نحل الأزمة.
قلت: وإلي أن يكتمل إنشاء الطريق.. هل يجب أن يستمر تعذيب الناس بهذا الشكل يوميا.. أو يموتوا؟!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف