الآن.. وبعد أن هدأت الضجة نستطيع أن نفكر بعقلانية بعيدا عن التشنج والانفعال.. فقد تم إقالة - أو استقالة - المحافظ "أبوتاتو" الذي لم يكن يصلح محافظا أصلا.. وتم تعليق المسئولية في رقبة الإرهابيين الخونة الذين كونوا تنظيما لسد البلاعات حتي تغرق الإسكندرية في أمطار نوة المكنسة.. ثم اتضح بمرور الأيام وتكشف الحقائق أن المسألة ليست بهذه الخفة.. وأن الأمور أعمق بكثير مما تصورنا.. وأننا في الواقع تعاملنا مع العرض وليس مع المرض الذي مازال ينخر في عظامنا.. ويحتاج إلي علاج ناجع.
هذا المرض هو الفساد الفاجر المتجذر الذي لم يجد من يستأصله.. ومازال يتحدانا جميعا.. ويسخر منا جميعا.. يطل علينا بأكثر من وجه ويتحدث بأكثر من لسان.. يخدرنا بتصريحات متفائلة عن خطة الاستعداد لموسم الأمطار والاطمئنان علي منظومة الصرف والبلاعات قبل حلول الشتاء بينما هو علي أرض الواقع يرتشي لغض الطرف عن التعديات والمخالفات التي دمرت منظومة الصرف وسدت البلاعات.
التفكير العقلاني الآن بعيدا عن التشنج كشف الكثير من الحقائق الصادمة التي تنم عن فجور غير مسبوق وغير متصور.. وقد لا تستوعبه عقولنا.. ولكن هذا ما كشفته التحقيقات وما نشرته الصحف وعلينا أن نتعامل معه في هذه المرحلة علي الأقل بقاعدة "المتهم برئ حتي تثبت إدانته".
فقد كشفت تحقيقات الأموال العامة بالإسكندرية توقف محطة رفع الصرف الصحي بالسيوف تماما عن العمل أثناء نوة المكنسة مما أدي لغرق المنطقة والمعمورة بمياه الصرف الصحي ومياه الأمطار.. وكان لابد من كشف لغز توقف هذه المحطة عن العمل رغم تركيب 7 طلمبات للرفع جديدة فيها عام ..2013 وكانت المفاجأة أن هذه الطلمبات التي بلغت قيمتها 30 مليون جنيه غير مطابقة للمواصفات.. ولم تعمل منذ تركيبها حتي الآن.
وكانت لجنة تضم مسئولين من الجهاز التنفيذي لمياه الشرب والصرف الصحي التابع لوزارة الإسكان والمرافق والتنمية العمرانية وشركة الصرف الصحي بالإسكندرية ومكتب للاستثمارات ودراسة البنية التحتية واستشاري المشروع قد قامت بالتعاقد لشراء هذه الطلمبات لمواجهة التوسع السكاني العمراني وزيادة الكثافة السكانية.. لكن الطلمبات لم تعمل مما أدي إلي زيادة الضغط علي الطلمبات القديمة بالمحطة أثناء النوة فتوقفت هي الأخري عن العمل.. وبذلك توقفت المحطة بالكامل عن أداء مهمتها.
وتبين أن الطلمبات الجديدة "المستوردة" لا يمكن تشغيلها لاختلافها من حيث سرعات التشغيل والمحابس وأقطار خطوط الطرد.. كما أن تشغيلها يؤدي إلي اهتزازات شديدة تؤثر علي الهيكل الخرساني للمحطة بالمخالفة لمواصفات محطات الصرف القياسية والنظام المتبع بمحطة السيوف.. ولمزيد من التثبت تم تشكيل لجنة من أساتذة كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية لمراجعة العقود والمواصفات وانتهت اللجنة إلي عدم إمكانية تشغيل الطلمبات الجديدة لاختلافها مع الكود المصري وعدم ملاءمة محركاتها وسرعاتها للعمل داخل محطة السيوف.. وبناء علي ذلك تم توجيه تهمة الإضرار العمدي بالمال العام - 30 مليون جنيه - لأعضاء لجنة التعاقد.. وكلهم - للأسف - مهندسون.
ومن ناحية أخري تحقق نيابة الإسكندرية مع ثلاثة من مسئولي الصرف الصحي قاموا بإخفاء 11 سيارة صرف صحي جديدة بـ 10 ملايين جنيه بأحد جراجات المرفق ولم يدفعوا بها أثناء أزمة مياه الأمطار وعدم قيد هذه السيارات ضمن الطاقة الإجمالية لسيارات الصرف في الوقت الذي كانت مديرية الأمن تستعين بسيارات الإطفاء لكسح وشفط المياه ورفع المعاناة عن المواطنين.
أرأيتم كيف يقودنا التفكير العقلاني والتحقيقات الهادئة إلي الحقيقة حتي نصل إلي المرض فنعالجه.. وقديما قالوا التشخيص الصحيح أول خطوة في طريق العلاج الصحيح.. أما الصخب فمن شأنه التغطية علي الفساد وصرف الأنظار عن الجرائم الكبري التي قد لا نتصورها.