الأزمات التي تتوالى علينا في مصر، لها مصادر كثيرة، بعضها نعرفه جيدا، فيسهل التشخيص والعلاج، وبعضها نجهله، ونحاول البحث عن أصحابه، ليتسنى معرفة الأسباب، التي تمهد الطريق لتصحيح الأخطاء، وهناك فئة ثالثة مخادعة تسير أمام أعيننا ولا نراها جيدا.
وخلال الفترة الماضية، بدأت تنتشر مجموعة من الظواهر الغريبة، تمثل أبرزها في التضخم المعنوي الذي أصاب شخصيات، سياسية واقتصادية وإعلامية، فمنهم من تصور أنه احتكر الفضيلة والحكمة، ومنهم من ادعى قدرته الفائقة على التحكم في مفاتيح الحل والعقد، ومنهم من ذهب إلى حد استعراض مهاراته في الادعاء أنه قادر على تحريك وتهدئة الشارع.
ربما لم يتوقف كثيرون عند هذه النوعية من الشخصيات المريضة، على اعتبار أنها فقاعات في الهواء ستتلاشى سريعا، لكن حتما لفت نظرهم أن هناك فيروسات انتشرت وتغولت في الجسد السياسي العام، وبدأت تأثيراتها السلبية تظهر في شكل عزوف كبير من قبل مواطنين عن الرغبة في متابعتها أو الاستماع إليهم، من خلال المنابر التي يطلون منها، ليس لأن هذه الشخصيات متلونة بطبعها، وتغير جلودها السياسية كما تغير ثيابها، بل لأنها فقدت تماما الحد الأدنى من مصداقيتها، بما لا يتسق مع تقديم نفسها على أنها واعية وجديرة أن تحترم.
هذه الطبقة أو الشريحة التي يطلق عليها نخبة، بدلا من أن تسهم في تنوير المجتمع، وفتح آفاق جديدة أمامه، وتقدم الأفكار والتصورات والاجتهادات الرصينة، أصبح عدد كبير من المحسوبين عليها، بالحق أو بالباطل، مشغولين برؤاهم الشخصية، ويمكن التضحية بأي شيء، إذا وجد هؤلاء أن هناك تعارضا بين أمنياتهم وأحلامهم وبين الواقع، ومن يلتفت حوله ويدقق في المشهد العام، وصوره السياسية والاقتصادية والإعلامية، لن يعدم أن يضع يده على أسماء كثيرة، تعكس هذه الحقيقة المريرة .
حديثي السلبي عن النخبة، بأنواعها المختلفة، لا يقلل من احترامي لكثيرين فيها، أعرفهم عن قرب أو بعد، لكن لأن المسألة في الفترة الأخيرة أخذت أبعادا درامية، في معنى الأفكار التي يتم طرحها، والسلوك الذي يتصرف بموجبه البعض، حيث بدأ يتجه نحو الضرب تحت الحزام، بكل ما يؤدي إليه من مساوئ شخصية وعامة، وهو ما يؤدي إلى مزيد من البلبلة والارتباك، ويخفض سقف تصويب المسارات، ويضعف القدرة والأمل على مواجهة التحديات.
وإذا نحينا الجوانب التي تتعلق بالانتهاكات والخلافات الشخصية، وركزنا على ما تفرزه من نتائج غاضبة على الصعيد العام، تبدو المصيبة عظيمة، ولعل التراشقات التي جرى تبادلها بين المستشارة تهاني الجبالي القيادية بالتحالف الجمهوري وجماعتها، واللواء سامح سيف اليزل وبعض القيادات السياسية في قائمة في حب مصر، من العلامات التي كشفت مدى السواد والتردي والانحدار، الذي وصلت إليه النخبة المحترمة، خاصة أن عددا كبيرا من الأسماء التي دخلت السجال، تخلت عن كثير من اللياقة التي كنا نتوقعها منها، وأمطرتنا بفاصل من الردح السياسي الغريب.
فالاتهامات التي وجهتها السيدة تهاني الجبالي للفريق المنافس في الانتخابات، ووصلت إلى حد االخيانة العظمى»، تؤكد أننا أمام أحد مشاهد مسرح العبث، فإذا كانت الشخصيات التي ادعت الدفاع عن الرئيس، والتلويح أحيانا بأنها تشكلت للدفاع عنه في البرلمان، والإيحاء أنها قريبة منه، نكتشف أنها عميلة للإخوان، فما هو رد فعل المواطن البسيط، الذي وثق في القائمة وأصحابها، وتم اختيارها بأغلبية كاسحة ؟
كما أن الاتهامات المقابلة التي وجهت للجبالي لا تقل بشاعة، فالسيدة التي احتلت مقعدا مهما في المحكمة الدستورية ذات يوم، وخاضت حروبا ضارية ضد جماعة الإخوان، تتكبد كل هذا العناء المخل بتاريخها، حتى تصبح نائبة في البرلمان، أو حتى رئيسة له ؟
المشكلة أن المعركة التي احتدمت فجأة، قدمت العديد من العبر والمواعظ والدروس للمواطن البسيط، الذي يشكر الجهة أو الجهات التي حركتها، لأنها قدمت له البرهان على صدق إحساسه بفقدان الثقة في نخبة أصابها الكثير من الاعتلال.
وفسرت لنا جميعا لماذا لم تكن نسبة الإقبال على التصويت في الانتخابات مرتفعة، ولماذا انزوت شخصيات كثيرة وعاقلة عن الدخول في معترك السياسة ؟ ولماذا بدأت شريحة من المواطنين تعزف عن متابعة برامج «التوك شو» التي لم تعد تحتل مرتبة متقدمة في نسبة المشاهدة ؟ ولماذا لم يعد المواطن عابئا بأن هناك مؤامرة داخلية وخارجية تريد النيل من بلاده ؟
الأسئلة الشائكة التي طرحتها معركة تهاني وسيف كثيرة ومختلفة، وتحل الإجابة عنها، جملة من الألغاز التي احتار البعض في فك شفراتها، من نوعية البكاء على انهيار تحالف 30 يونيو، لأنه ببساطة كان قائما على رؤية ضيقة، راعت مصالح أعضائه، قبل أن تراعي مصالح الوطن، كما أن القوى التي شاركت فيه حسبت أن معركة مصر انتهت مع سقوط حكم الإخوان، وتجاهلت عمق التحديات الإقليمية، كما أنها تفرغت للتفكير في كيف يكون لها مقعد أو أكثر بالقرب من رئيس الجمهورية، دون أن تتعب في تحديد المهام التي يمكن أن تقدمها، وتصبح مفيدة للدولة الوطنية.
الأخطاء التي ارتكبها قطاع كبير من النخبة المصرية خلال الفترة الماضية، كفيلة بأن تقدم لنا شرحا وافيا لطبيعة النكبات التي لحقت بنا، كما أنها تزيح الستار عن الدوافع الحقيقية للإخفاقات المتوالية، في مجالات شتى، والأهم أن هذه الحصيلة، تؤكد لماذا تيقن الناس أنهم كانوا مخدوعين في أشخاص اعتقدوا لبرهة أنهم على درجة عالية من المسئولية والنضج، ويمكن أن يمسك أصحابها بزمام الأمور ليعبروا بنا إلى بر الأمان.
للأسف قدمت معركة تهاني وسيف أدلة قاطعة على فشل النخبة المصرية، وحولت الهواجس والشكوك التي راودت البعض في عبثية المشهد السياسي إلى حقيقة دامغة.