التحرير
شعبان يوسف
هيكل يكتب عن أزمة الانفصال بين مصر وسوريا
عندما حدثت الوحدة بين الدولة المصرية والدولة السورية فى فبراير 1958، وأصبحتا الجمهورية العربية المتحدة، صفق لهذه الجمهورية الوليدة الكثيرون، وكتب كذلك مفكرون وساسة وأدباء فى التريث من سرعة هذا القطار الوحدوى الذى قام على بضع عواطف -من وجهة نظر البعض-، ومنطلقا من أطماع متبادلة -من وجهة نظر بعض آخر-، وتحفظ الشيوعيون المصريون على هذه الوحدة الاندماجية، ورأوا أن هذه الوحدة ما هى إلا التعبير الأسوأ لتحالف البورجوازيات العربية.

وقراءة الشيوعيين للحدث ومعارضتهم له من حيث الشكل لم تنبع من فرط المعارضة للنظام، بقدر ما كانت قراءة سياسية مختلفة، وراشدة لخطوات النظام، حيث كان هناك التحالف الوطنى بين الشيوعيين والسلطة، خصوصا بعد العدوان الثلاثى عام 1956، وكانوا حريصين على طرح شكل آخر للوحدة، ولكن السلطات آنذاك لم تستمع لهم، ولم ترد على وجهات النظر هذه إلا باعتقالهم فى نهاية عام 1958، وطالت فترة الاعتقال إلى أن وصلت إلى خمس سنوات، هذا عدا اتهامهم بالخيانة الوطنية والعمالة والوقوف ضد الجبهة الوطنية، وتأييدهم لعبد الكريم قاسم الذى كان حليفًا ونصيرًا للثورة المصرية بعد صعوده إلى السلطة مباشرة، وسرعان ما تحول إلى عدو لدود وشيطان أحمر.

وعلى المستوى الأدبى والثقافى كان الكتاب المصريون يبدون بعض تحفظاتهم على سرعة إجراءات الوحدة، وتنبيه السلطة لخطورة هذه السرعة، والتى ستعجل بسقوط القطار من فوق القضبان الهشة، وكتب فتحى غانم فى بواكير الوحدة منتقدا بعض الآراء التى تذهب إلى توحيد السينما والمسرح والأدب والثقافة والفلكلور فى كيانات مشتركة، وصرخ بأن هناك سمات وخصائص مختلفة لكل فن وأدب ومسرح لكلا الشعبين، ولا يجوز هذا المزج التفاعلى الكلى لفلكلور شعب فى فلكلور شعب آخر، باعتبار أن مصر مجرد إقليم جنوبى، وسوريا مجرد إقليم شمالى، واعتبروا أن هذا الأمر مجرد اختصار مخل وفيه عوار.

ومن الطبيعى أن يكون محمد حسنين هيكل هو أحد المنظرين لتلك الوحدة، وأحد المتحمسين لها والداعين لقيامها، وعلى المستوى الآخر كان أكثر المحرضين على إغلاق أفواه المعارضين الشيوعيين الأشرار من وجهة نظره، وكتب بالفعل مقالًا تحت عنوان علقوا على أفواههم الأقفال ، وذلك بعد خطبة جمال عبد الناصر فى 23 ديسمبر 1958 بمناسبة عيد النصر، وهاجم فيها الشيوعيين السوريين والعراقيين والمصريين، وكان هذا الخطاب بمثابة صفارة الإنذار لسحق ومطاردة الشيوعيين فى كل مكان.

وسارت الأمور لثلاثة أعوام دون تقدم إيجابى فى مسألة الوحدة، وكان السوريون قد حصلوا على كل ما ابتغوه من هذه الوحدة، وحدثت عملية التمرد فى 28 سبتمبر 1961، والتى انتهت بالانفصال الحاد والعنيف، والذى استدعى كثيرين من الكتاب والساسة لتحريض السلطة المصرية للهجوم على سوريا، وللقيام بعملية إنزال عسكرى لقمع المتمردين، ولكن كان جمال عبد الناصر أكثر حكمة منهم، وأكثر تريثا، وأكثر تعلما منهم فى درس الانفصال الرهيب.

وفى يوم الخميس 22 فبراير 1962 صدر كتاب محمد حسنين هيكل ما الذى جرى فى سوريا ، وأعتقد أن هذا الكتاب لم ينشر سوى مرة واحدة، ولم يعد هيكل نشره مرة أخرى، رغم أنه يصل إلى درجة الوثيقة التاريخية، باعتبار أن محمد حسنين هيكل هو أحد العقول المحركة للأحداث، والقارئة لها من موقع فريد واستثنائى، ويتجاوز موقع الصحفى ورئيس التحرير، والصديق الأول لرئيس الجمهورية.

يقول هيكل فى مقدمة الكتاب: لم يكن القصد من هذه الأحاديث كلها عن سوريا وعن الذى جرى فيها أن تكون كتابا.. وإنما كانت هذه الأحاديث تفاعلا تلقائيا مع المشهد العنيف الذى شهدته دمشق فجر يوم 28 سبتمبر من سنة 1961 ، ويعترف هيكل بأنه كان يملك معلومات ووثائق تنبئ بأن هناك مشكلات، وكان عازمًا من قبل على أن يكتب فى ذلك الشأن من وجهة نظره، ومن موقعه الخاص: ومن هنا فلقد كانت المعلومات لدى جاهزة، والوثائق على استعداد، ومن هنا كان حظى، وبالصدفة وحدها، أن أجد ذلك كله قريبا منى فى لحظات الانفعال العاطفى .

وفى نهايات المقدمة يبشر الأستاذ هيكل إلى أن يوما سيجىء لتتوحد فيه سوريا ومصر على قواعد أكثر متانة من القواعد العاطفية التى قامت عليها هذه الوحدة يومها بعد أن تنزاح أطباق الظلام الكثيف عن آفاق سوريا، سوف تكون صيحة الجماهير فى سوريا هى: ماذا جرى..؟ .

ويستعرض هيكل فى الفصل الأول الدوافع التى جعلت السوريين يجيئون إلى مصر، طالبين الوحدة معها، وذلك كان خوفا من قوة الشيوعيين فى الداخل السورى، بقيادة الحزب الشيوعى السورى الذى يترأسه خالد بكداش، كذلك الهروب من سطوة حلف بغداد.

ورغم أن جمال عبد الناصر كان قد نصحهم بالتريث -حسب هيكل-، وقال لهم: إننا نحتاج على الأقل إلى خمس سنوات، لنضع أسسا حقيقية.. أسسا اقتصادية.. أسسا سياسية.. أسسا شعبية فإن الخطر كان يلهب ظهورهم، وفورة العاطفة تشدهم .

ويقرر هيكل أن هذه الأسس لم تكن موجودة على الإطلاق: لم تكن هناك فى الواقع بين الشعبين العربيين فى مصر وسوريا من روابط فعلية وإيجابية لقيام الوحدة، إلا شىء واحد.. هو جمال عبد الناصر وشخصيته وشعبيته.. وأنا معجب بجمال عبد الناصر ومؤمن به.. ولا أظن أحدًا يستطيع أن يتهمنى فى هذا الإعجاب أو هذا الإيمان.

ويقول هيكل هذا الكلام عن حبه لجمال عبد الناصر، ليتلوها بالجملة الأهم وهى: ولكنى أقول -بقلبى وعقلى- إن شخصية البطل لا تكفى وحدها لتضع وحدة الأمة العربية .

وتكفينى هذه الجملة الأخيرة بأن أعبّر عن قلقى فى التعلق بالقوة الخرافية لأى بطل فى التاريخ، فهذه القوة الأسطورية الفردية -مهما بلغت- لا تكفى لتنفيذ خطط تتعلق بمصائر شعوب كاملة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف