الأهرام
عزت السعدنى
يا وطنى.. أنت أعظم من الكراسى !
لم أكن أعرف أن الصغار أو الذين نحسبهم صغارا.. أصبحت تعرف أكثر.. وتدرك أكثر.. وتفهم أكثر مما نتصور ونتخيل.. حتي قابلتهم..
ولم أكن أعرف أن البراعم قد تفتحت في غيابنا.. وفاح عطرها الذكي وتفكيرها الحر البكر النقي بلا قيود.

ولم أكن أعرف أن العصافير التي رسمناها بالطباشير علي الأرض خط سيرهم.. تطير الان من حولنا وتزقزق بجناحيها وتغرد وتشدو ونحن لاهون.. لا نسمع أعذب الحانهم.. وأجمل كلمات قيلت.. حتي جلست إليهم.. ولم أكن أعرف أن الصغار أو الذين كانوا في نظرنا وفي فكرنا مازالوا صغارا.. قد شبوا الآن عن الطوق الذي وضعناه نحن حول أعناقهم.. أنهم يعيشون الآن.. عالما لا نعرفه ولن نعرفه لبعدنا عنهم حبا كرها أو كرها وربما اهمالا منا في غير وقته أو أوانه أو مكانه.. وربما لابتعادنا عنهم بعد أن تراكمت في كتابنا صفحات العمر.. وامتلأت جعبتنا بتلال الهموم.. وهرمت بنا الأيام وتباعدت بيننا المسافات.. وشاخت بنا السنون.. ولم نعد نسمع أو نري أو نفهم.. أو حتي نحاول أن نفهم.. ولم تعد جيادنا قادرة علي العدو والرمح والقتال..

يعني في جملة قصيرة واحدة.. لم أكن أعرف أنهم يعرفون كثيرا من أمور الدنيا.. ربما مثلنا.. وربما أكثر وأبعد من أنوفنا.. ولكنهم لا يتكلمون ولا ينطقون.. حتي التقيت بهم..

من هم؟

أين كان اللقاء.. ومتي؟

................

...............

فاجأتني ـ بحضورها دون سابق ميعاد ـ رفيقة الأسفار والأصقاع في بلاد العم سام .. كما كنا نطلق علي أمريكا بجلالة قدرها.. بروفسيرةجاكلين ديمون خياط.. أستاذ العلاقات الاجتماعية والنفسية في جامعة دنفر كلورادو.. والتي طافت بي يوما مدينة دنفر عاصمة الولاية وما حولها عندما زرتها بصحبة رفيق الطريق عالم المصريات د. زاهي حواس في رحلة آثار رمسيس الثاني ملك الملوك إلي أمريكا .. وقامت العاصفة الثلجية ذات مساء فوق قمة الجبل.. ولكن تلك حكاية أخري..

قالت لي وهي تجلس أمامي علي الكنبة السوداء الطرية في حجرتي: أنا شديدة الأسف.. لم أجد الوقت لأخبرك.. أو هكذا أرادوا لي في الجامعة أن أركب الطائرة وأذهب لأعرف ماذا يجري الآن في القاهرة بعد ملمات الطائرة الروسية والسيول وحرب القاهرة مع فلول الجماعات الإرهابية في سيناء وانتخابات مجلس النواب الجديد وقرب عودة الديمقراطية إلي الشارع السياسي المصري..

كلام كتير منمق ومزوق ومرتب.. ولكن المهم أنها فاجأتني بقولها إنها اتفقت مع صديقة لها في القاهرة علي أن تكون أول زيارة لها مدرسة مصرية.. لتعرف فيم يفكر الصغار وماذا يدور في راس البراعم المصرية التي تتفتح علي الديمقراطية والحرية والانتخابات البرلمانية+ كومة من المشاكل تحاصر أهل مصر هذه الأيام لا ذنب لهم فيها ولا جريرة..

هي تعد علي أصابعها: نكبة الطائرة الروسية ومن الفاعل؟+ انحسار المد السياحي الذي كان قبل حادث الطائرة الأسود+ السيول التي أغرقت القري والحقول وهدمت البيوت وشردت السكان.. وحولت الاسكندرية عروس البحر الأبيض إلي بحور في الشوارع يعبرونها بالقوارب.. وشلل في المرافق وصراخ في البيوت.. زائد ـ وتلك كلمتها ـ زيادة السكان المرعب وأزمات في ارتفاع الأسعار وفي البطالة إلي جانب تفاقم الصراع الأزلي بين الجنيه والدولار!

....................

....................

ذهبنا إلي مدرسة آخر شياكة وآخر نظاكة ـ وهي كلمة تركية تعني آخر فخامة ونظافة وترتيب ـ كأنك في فندق خمس نجوم.. في الحي الخامس الذي يشبه أحياء لندن وباريس وستوكهلم.. بدعوة من صديقة لصاحبتنا الأمريكية بوفيسورة دنفر كلورادو.ـ اختاروا لنا نحو عشرة تلاميذ وتلميذات.. وذهبنا كلنا لنجلس في الحديقة فوق كراسي خيرازانية شيك.. آخر راحة وآخر فخفخة..

سألتهم هي: فيه حاجة مضيقاكم؟

قالوا وكانوا خمس بنات في مرحلة الاعدادية والثانوية وسبعة صبيان في مثل سنهم ومثل فصلهم الدراسي: احنا ما عندناش حاجة تضايقنا..

ورد ولد »فلعوط« منهم ـ فلعوط تعني في بر الشام الولد الجدع: واحنا بعون الله كده نضايق بلد بحالها!

ضحكت البروفسيرة الأمريكية التي تعرف كثيرا عن اللهجات المصرية.. وضحكنا معها.. ولكنها فاجأتهم بسؤال عن الطائرة الروسية التي نزلت فوق رءوسنا جميعا بمظلات انحسار المد السياحي الذي أتي بصحبة البطالة وبالغلاء والفلس والكدر؟

قالت تلميذة ترتدي فوق عينيها نظارة طبية: نحن ياسيدي الذي صنعنا بأيدينا أزمة الطائرة الروسية.. تسألوني إزاي؟.. أقول لكم: لو اننا شددنا من اجراءات الأمان والتأمين والفحص في مطار شرم الشيخ لما تسلل عفريت داعش ووضع قنبلة موقوتة داخل علبة مياه غازية صوروها لنا علي شبكة النت في ذيل الطائرة، لماذا نخفي إهمالنا.. نحن الذين تسببنا في هذه الكارثة المروعة.؟

يصفق الحاضرون.. بينما تكمل التلميذة النجيبة ما بدأته بقولها: الموت والحرق والشنق لايكفي عقابا لهؤلاء الذين باعونا بأبخس ثمن!

أتدخلي بقولي: ولكن الدولة لم تسكت وهناك تحقيق كبير يجري الآن علي أعلي مستوي في مطار شرم الشيخ لتعقب الجناة وتغيير منظومة الأمن كلها.. واستدعاء فريق أمني عالمي يتولي مهمة تأمين المطارات،، كل مطارات البلد، وليس فقط في شرم الشيخ!

..........................

..........................

نهدأ قليلا ونحن نحتسي فناجين القهوة والنسكافيه.. ليقاطعنا تلميذ في نحو الثالثة عشرة من عمره بقوله: قال لي والدي الذي يقدم برنامجا يثير الجدل في قنوات فضائية: إذا أردت أن تعرف الحقيقة ابحث عن الفاعل الحقيقي؟..

وقال لي أيضا: ان الدول الكبري يعني أمريكا ومعها أوروبا كلها وربيبتهم اسرائيل يخططون لرسم خريطة جديدة للوطن العربي كله..

تكمل له عبارته الصديقة المصرية المثقفة جدا بقولها: من هنا يخلقون القلاقل ويشعلون الحروب في المنطقة كلها كما فعلوا من قبل.. في «سايكس بيكو» في أعقاب الحرب العالمية الأولي.. انهم يرسمون خريطة للشرق الأوسط الجديد ونحن بداخله طبعا.. هكذا يفعلون في ليبيا والعراق وسوريا ولبنان والسودان واليمن.. إنهم يحاولون معنا نحن. ولكننا نقف لهم «زنهار» يعني يقظين منتبهين.. فلو انهارت مصر انهار الشرق الأوسط كله.. وانهارت كل الدول العربية.. دون استثناء وحط تحت دون استثناء دي خط بالأحمر!

يتدخل تلميذ نجيب لا يتعدي عمره السادسة عشرة بقوله: وعشان كده زي ما والدتي أستاذة الجامعة بتقول دائما خلقوا لنا حاجة اسمها داعش.. بعد الهجمة البشعة في 11 سبتمبر عام 2001 في نيويورك والتي بعدها انقلب ميزان القوي في العالم.. وتحرك الغرب بقيادة أمريكا وتابعتها اسرائيل ليدمروا العراق وينهبون ثرواته وفي مقدمتها النفط، والتهموا ليبيا وقتلوا رئيسها.. ومن بعدها سوريا.. ولولا بسالة شعبها.. لما صمدت حتي الآن.. ثم صنعوا وحشا من غل وضغينة وكره للدنيا كلها قادما من عصر الديناصورات اسمه «داعش» واخواتها جماعة النصرة وبيت المقدس ومن قبلها القاعدة بتاعة عمنا بن لادن!

نصفق كلنا للتحليل الخرافي الذي قدمه لنا تلميذ مازال في المرحلة الثانوية.. ولكن التلميذ النجيب قال لنا معقبا: بعد أن رأي نظرات الاعجاب في عيوننا: بس ده كله كلام بابا اللي قالهولي.. وهو أكثر مني علما وإطلاعا!

...................

...................

وجدت نفس أتكلم بعد أن حاصرتنا الهموم وأطبقت علينا الظنون وأصبحنا بين شقي الرحي للإرهاب والمخططات السياسية القبيحة التي تحاك لنا في الخفاء وفي العلن..

يسألني التلاميذ: وإيه معني اللي في الخفاء.. واللي في العلن؟

قلت: في الخفاء ومن وراء ظهرنا يحاولون غلق حنفية المياه التي تروينا وتسقينا وتطعمنا طول عمرنا وعبر مشوار حضاري طوله أكثر من خمسين قرنا من الزمان التي اسمها النيل الأزرق الذي يبنون عليه الآن سدا اسمه سد النهضة ـ وقد انتهوا بالفعل من استكمال 47% من بنيانه ـ يعني نحو نصفه تقريبا ـ عند اثيوبيا التي تريد أن تعطش وأن تجوع وأن تبور أراضينا وأن يموت زرعنا باقامة سد الشياطين الذي اسمه تساعدهم أمريكا وبريطانيا واسرائيل طبعا ودول عربية.. لا نريد ذكر اسمائها هنا، بينها السودان التي تتلاعب الآن في عقد الاجتماع الثلاثي بيننا وبين إثيوبيا والسودان في الخرطوم بحجة أن مصر تعذب في سجونها أفرادا سودانيين.. وأن وزير الري السوداني مسافر إلي أمريكا الجنوبية.. وسأستعير هنا عبارة الممثل العبقري صلاح منصور في فيلم الزوجة الثانية: هي حبكت؟

قالت الصديقة المصرية: يعني مؤامرات في الجنوب ومؤامرات في الشمال بضرب السياحة والاقتصاد المصري في مقتل!

قالت استاذة جامعة دنفل كلورادو: انتم نسيتم وحشا اسطوريا خرج من قمقم ساحر هندي اسمه داعش الذي يهدد العالم كله الآن.. وكانت البداية في العراق وسوريا وهم الآن يقفون بمحطة باريس بعدما صنعوا بأهلها ما صنعوا من تفجيرات وقتلي ورعب حقيقي دفع رئيس فرنسا لطلب تعديل الدستور من مجلس النواب والشيوخ الفرنسيين حتي يمكن مواجهة هذا الوحش القادم من غياهب التاريخ!

تلميذة مجتهدة: ومازال يهدد العالم كله بما فيه نحن العرب، وربنا يستر!

من بين الصفوف فاجأنا شاب لم يتكلم طوال الوقت بقوله:

تسمحوا لي أن أتكلم عن رد فعل أوروبا وأمريكا ضد المسلمين بعد حادث باريس؟

قلنا كلنا: تفضل يا ارشيدوق!

قال: سأنقل لكم ما كتبه زميلكم جهاد الخازن في صحيفة الحياة اللندنية..

قال:

<< يتعرض المسلمون في أوروبا والولايات المتحدة لحملات عنصرية وعنف من مستوي لم يعرفه الغرب منذ سقوط النازية.. »داعش« قدم المسلمين هدفا علي طبق من فضة لكل عنصري أو متطرف.. وخدم إسرائيل.. كما لم يستطع يهود الخارج أن يخدعوها.. فقد حول أنظار العالم عن قتل إسرائيل كل يوم فلسطينيا أو اثنين أو ثلاثة.. وأحيانا صغيرا أو صغيرة.. والكل مشغول بإرهاب ليس له علاقة إطلاقا بالإسلام.

في الأسبوع الذي نبع إرهاب باريس شهد 33 اعتداء علي مواطنين مسلمين.. بعد أن كانت النسبة أربع شكاوي إلي خمس في الأشهر السابقة.. يناير الماضي سجل 178 اعتداء علي المسلمين في فرنسا بعد الهجوم علي مجلة »شارلي ايبدو« وسوبر ماركت اليهود.

الآن.. حزب الجبهة الوطنية الفرنسي يدعو إلي وقف قبول المهاجرين وطرد المسلمين.. وقد أصبح كثير من العرب المسلمين والأفارقة لا يغادرون بيوتهم حتي لا يتعرضوا لاعتداءات في الطريق.

الوضع ليس أفضل أبدا في بريطانيا، حيث زادت الاعتداءات 300% منذ الإرهاب في فرنسا.. وكانت الغالبية منها ضد نساء مسلمات وأطفال، وقبل ذلك سجل 816 اعتداء علي المسلمين في 12 شهرا انتهت في يوليو الماضي، وهي فترة شهدت أيضا 499 حادثا!

جريدة »الصن« اللندنية نشرت خبرا يزعم أن 20% من المسلمين يتعاطفون مع الهجمات الإرهابية.

وجريدة »الديلي ميل« نافست »الصن« وهي تنشر رسميا كاريكاتوريا يظهر المهاجرين إلي بريطانيا ترافقهم جرذان.

وفي ألمانيا، المستشارة انجيلا ميركيل تشكر علي موقفها من اللاجئين السوريين، إلا أنه موقف أثار عليها اليمين الألماني والمتطرفين، ورأيت صورا لها بحجاب!

ولا أحتاج هنا إلي أن أتحدث عن مواقف المتطرفين في أوروبا الشرقية فقد كان رئيس وزراء هنغاريا فكتور اورويان منهم وهو يبدي الخوف علي المسيحية في أوروبا من غزو المسلمين.

والمسلمون في الولايات المتحدة يتعرضون لاعتداءات في كل ولاية وبعض حكام الولايات أعلن أنه لن يستقبل أي لاجئين سوريين.

هناك الآن من يريد إغلاق المساجد وترحيل المسلمين.

في النهاية أحيي وزيرة خارجية السويد مارجو والستروم التي ربطت بين الإرهاب في فرنسا وهمجية حكومة إسرائيل ضد الفلسطينيين!

.......................

.......................

أتذكز المطرب التونسي الرائع لطفي بوشناق عندما غني لنا وللعرب كلهم:

أنا حلمي بس كله أن يفضل عندي وطن ..

ياوطني انت حبيبي وانت عزي وانت تاج راسي..

أنت فخر المواطن والمناضل mالسياسي.

انت أجمل.. انت أغلي..

انت أعظم من الكراسي!

تصفيق حاد منا ومن كل أحرار العالم{
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف