السفير معصوم المرزوق
ما بعد الانهيار وقبل النهوض !
أتذكر هذا الصحفى الكبير بشكل خاص، لأنه فى أثناء الهجوم الإسرائيلى على مدينة «جنين» عام 2002، اتصل بإحدى الفضائيات العربية، وظل يصرخ ويهتف حتى اختتم بالبكاء والنحيب بصوت عال وهو يردد: نحن فداؤك يافلسطين.. نحن فداؤك يافلسطين!!، وقد تصادف أن كان معى بعض الأجانب الذين طلبوا أن أترجم لهم صرخات وهتافات ذلك الصحفي، كانوا يظنون أنه فقد ابنا أو ابنة... بعده مباشرة كانت فتاة فلسطينية شابة تتحدث بثبات وتحد وخلفها مناظر للدمار والهلاك، رافعة رأسها، قائلة فى تصميم وبنبرة غير مترددة: اننا صامدون وياجبل مايهزك ريح..
لقد كان الصحفى الكبير مؤثرا الى حد كبير، ولا شك أن ملايين المشاهدين فى العالم العربى قد انفعلوا وانخرطوا فى بكاء يتناسب مع ولولته وصرخاته، وهو ما يؤكد نجاحه فى مهمته السلمية من حيث تأكيد العجز واضافة المهانة الى الجرح، وليس من المستبعد أنه توجه فى نفس الليلة الى أحد المؤتمرات الحاشدة كى يواصل فاصل اللطم والبكاء، وتوجيه النقد والاتهام ذات اليمين وذات الشمال، واستطيع ان أجزم بأنه عاد فى نهاية الليلة كى يتناول وجبة عشاء دسمة، وينام قرير العين مرتاح الفؤاد.. ولايزال حتى اليوم يمارس مهمته المقدسة !!.
بينما كانت تلك الفتاة الفلسطينية ذات العشرين ربيعا، تواجه الكاميرا بنظرة حادة، شامخة برأسها رغم الانهيار البادى من خلفها فى كل مكان، تتحدث باختصار، وكأنما تتعجل كى تقوم بعمل اخر أكثر جدية، ودون أن تطرف لها عين تسرد أرقام الشهداء من اسرتها وجيرانها، وتتوعد بأن معين الشهداء لم ولن ينضب.
ولا أظن أن هناك من كان اكثر سعادة من جهاز الدعاية الصهيوني، وهو يتابع صرخات الصحفى العربى الكبير غير المأجور، والذى يؤدى دورا يعجز عنه أى مأجور، فهو يرسخ بولولاته شعور العجز، ويجذر الاحباط ويرخى بأستار سوداء على المستقبل، وهو فى نفس الوقت يؤكد تفوق العدو الذى لم يعد من سبيل لمواجهته سوى الولولة ولطم الخدود، كل ذلك فى الوقت الذى كان فيه عدد من الشباب يحجزون بأبدانهم تقدم دبابات ذلك العدو على بوابات جنين، ويلقنونه الدرس تلو الآخر، ويسطرون أروع ملامح النضال العربى الحديث.
ان ذلك الصحفى الكبير، يقوم بنشر الرسالة التى يريدها العدو من ذلك الاعتداء فهو يريد نشر الرعب والخوف بغرض فرض الاستسلام، وهو يعلم انه يواجه موقفا جديدا لشعب تصلبت ارادته بالنار ويفهم أكثر من غيره ان انتشار دباباته وجنوده بين قرى ومدن فلسطين هو بداية الانكسار امام المقاومة الفلسطينية الباسلة، ولا شك عندى فى انه كان يشعر بالهزيمة فى أعماقه رغم كل مظاهر الدمار التى نشرها فى كل انحاء الضفة الغربية، ورغم ما قد تعكسه صورة دباباته التى تزحف فى الشوارع الخالية.. فهو يعرف أن جنوده داخل هذه الدبابات يرتعدون حتى النخاع، يفقدون شرفهم العسكرى كل لحظة يسقط فيها طفل أو امرأة أو رجل بريء ..
من المؤسف والمحزن فى آن واحد أن نجد ظاهرة مثل ذلك الصحفى الكبير، وأمثاله الكثيرين بين قادة الرأى وفقهاء السياسة فى البلاد العربية ، ويكفى أن نتصفح بعض الفضائيات فى أمسية واحدة كى نرى ونسمع أولئك الذين يحللون ويفندون ويحشون رءوس الناس بكلام لا معنى له، ويخوضون معارك وهمية مع طواحين الهواء.. ان هؤلاء أخطر على الشعوب العربية من «نتن ياهو» وأشباهه لأنهم الفيروس الذى يسعى لتحطيم جهاز المناعة العربي، ذلك الجهاز الذى اكتسب مناعة اضافية بدماء شهداء فلسطين.
ولا يختلف الكثير من الغناء عن هذا الهراء، فالكلمات منتحبة معتذرة تكاد من الذل تنحني، والألحان جنائزية تتوسل الدمع من أحداق المستمعين، ليس فيها شموخ وتحد (ياقدس) لفيروز، أو تجاوز اللحظة الحزينة الى مابعدها كما فى أغنية (فدائي) لعبدالحليم حافظ.. أغلب الاغانى للاسف تكرس بدورها العجز وقلة الحيلة.
ورغم كل الأحزان التى تملأ القلب من اجل هذه الزهور التى تدوسها جنازير الهمجية والاستبداد، فإننا يجب ان نضع تلك الأحزان فى موضعها الصحيح، أى نختزنها كرصاص من أجل المعارك القادمة، وننشرها خرائط عمل نضع عليها خطتنا للمستقبل، ونرفع رءوسنا فخرا بأبنائنا الذين فى الطليعة منا يحاربون على حدود شرفنا وكرامتنا ويذودون عن خندقنا الاخير، ويضعون الحروف الأولى فى عنوان الانتصار القادم بإذن الله لا محالة.
ان كل الشعوب الحية قد دفعت من دمائها ودموعها الكثير من أجل الحرية والعزة والكرامة، ولو أعدنا قراءة التاريخ لوجدنا العديد من الامثلة والعبر لمن يعتبر، ولا أريد أن أضرب أمثلة من التاريخ العربى وهى كثيرة، ولكن انظروا الى تشرشل وقد عادت فلول قواته من دنكرك الممزقة مهانة وقد علا الذل وجوههم، لقد وقف تشرشل صامدا بينما الطائرات الألمانية تحول لندن الى انقاض، حتى جاء الموعد الذى احتفل فيه بيوم النصر، ولعل أحدا فى اثناء تلك الليالى السوداء التى عاشتها بريطانيا لم يكن يظن أن ذلك اليوم قد يأتي.
وبعد نكسة الجيوش العربية فى يونيو 67، كم ناح النائحون ولطم اللاطمون خدودهم، وقرأنا مزامير اليأس والقنوط، وقيل لنا إن قناة السويس وخط بارليف فى حاجة لقنبلة نووية للتغلب عليهما، ولكن صمد جيش مصر وقدم الآلاف من الشهداء فى حرب الاستنزاف المريرة، ولعقنا مرارة الألم بينما طائرات العدو تتجول فى سمائنا وتقصف حتى مدرسة الأطفال فى بحر البقر، حتى جاءت الساعة وانتفض جيش مصر، وتحطمت أسطورة العدو الذى لا يقهر، ورأيت بأم عينى جنودهم وهم يفرون مرتعدين، ورأيت من وقع فى أيدينا أسيرا وهو يبكى مذعورا، وكان لنا يومنا مثلما كان لهم يومهم.
من المحزن أن هذا الصحفى الكبير وأمثاله لا يزالون نجوم البكائيات واللطم وإهالة التراب على الرءوس، وهم أنفسهم الذين يتراقصون أمام مواكب الطغاة ويطبلون ويزغردون، إنهم عاهات العقل العربى ومع ذلك يتسلقون كاللبلاب مواقع السلطة والتسلط، ويجلسون فى مواقعهم العالية مثل البوم فوق الأشجار ينعقون ..
لقد قال تشرشل لأهل بلاده فى ذلك الزمن الصعب: ليس لدى ما أقدمه لكم سوى مزيد من الدماء والدمع والعرق.. لم يقف امام الكاميرات كى يبكى ويصيح ويولول. وهكذا وقفت ابنة فلسطين الشابة تردد كلمة قائدها أبوعمار (ياجبل ما تهزك ريح).. وهكذا سيقف شاب فلسطينى فى المستقبل كى يقول: (كانت أيامنا صعبة، ولكننا صمدنا وانتصرنا.. والنصر صبر ساعة).