قصْفٌ وتفجيرات وقتلى بالعشرات، حرائق مريبة، فوضى إعلامية، تسريبات تُدين طرفيها، وثقة غائبة حتى بين الخِلّ وخليله..
هذا هو حال السياسة وناسها، لكن الحياة تمضى..
أحاول اليوم (لسبب فى نفسى) أن أبتعد قدر الإمكان عن الأخبار المزعجة، لذلك سأتجنب السؤال عن مصير المؤتمر الاقتصادى فى ظل هذه الأجواء المشحونة بالقلق والترقب، وأنسى توتر الاستعداد للانتخابات البرلمانية، ودهشة التعرف على تفاصيل حياة فتى داعش الجديد محمد الغندور، وأخبار العائدين من ليبيا أحياءً وقتلى. أتمنى أن يكون اليوم استراحة من الهمّ العربى، ومن الواقع بكل ما فيه، والسبب الذى فى نفسى هو محاولة التهيؤ لمتابعة حفل توزيع جوائز أوسكار الأمريكية!
لقد تعودتُ على متابعة الحفل سنويًّا، وكنت أجهِّز قائمة ترشيحات خاصة بى، وأقارنها بنتائج الأوسكار، وكان تركيزى فى العادة على الأفلام الروائية، أما هذا العام فإن تركيزى ينحصر فى الأفلام الوثائقية، وبالتحديد حول فيلم Citizenfour للمحققة الصحفية والمخرجة الأمريكية لاورا بويتراس.
فأنا أعرف لاورا، ومعجب بأسلوبها الاستقصائى المحايد منذ قدمت فيلمها الشهير عن حرب العراق عام 2006 بلدى.. بلدى ، وترشحتْ عنه أيضا لجائزة الأوسكار، ولم تحصل عليها، فهل تتكرر الخيبة للمرة الثانية عقابا لها، على السير فى الاتجاه المعاكس للإدارة الأمريكية؟
لاورا هذه المرة تقدم خبطة صحفية نادرة، حيث التقت مع فاضح المخابرات المركزية إدوارد سنودن، صاحب الأزمة المدوية فى الكشف عن برامج التجسس السرية الهائلة، التى تستخدمها أمريكا لمراقبة العالم كله، وقدمت وثيقة بالصوت والصورة، من دون أن تسبب ضررا للعميل المطارَد. بعد مراسلات إلكترونية اتفقت لاورا مع سنودن على اللقاء فى يونيو عام 2013 فى أحد فنادق هونج كونج، حيث صورت فيلمها بسرية تامة فى 8 أيام بمساعدة من زميلها الصحفى جلين جرينولد، فى ظروف عمل صعبة، وصفتها بأنها كانت أخطر من ظروف عملها فى مناطق توتر وحروب مثل أفغانستان والعراق واليمن. حينذاك لم تكن قصة سنودن قد تحولت إلى قضية عالمية، وكان يراسل لاورا بتوقيع سيتزن 4 (أى المواطن رقم 4)، وهو الاسم الذى استخدمته عنوانا لفيلمها، الذى يختبر نزاهة جائزة الأوسكار هذا العام، بعد أن سقطت نزاهة النظام الأمريكى نفسه أمام العالم كله.
فى الفيلم تبدو بشاعة الصفعة الأمريكية على وجه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التى تنظر فى حالة من الذهول حين علمت بخبر التجسس الأمريكى على مكالماتها الهاتفية.
لم تكتفِ لاورا بحوار تليفزيونى يحكى فيه سنودن ما لديه من جانب واحد، لكنها استعانت بجلين جرينولد لاستكمال تحقيق استقصائى مدقق، واستخدمت كثيرا من التفاصيل الفرعية لرسم شخصية سنودن، وتضحيته بعمله وحياته من أجل الانتصار لمبدأ أخلاقى يدين التجسس، لذلك جاء الفيلم صادقا فى عرض المعلومات، ومؤثرا من الناحية العاطفية لصالح سنودن، فالفيلم يقدمه كمناضل أخلاقى لصالح الإنسانية. هذا التعاطف الموضوعى لمسه سنودن فى أثناء التصوير، ولما سألته لاورا: لماذا وثقت فى الحديث معى واخترتنى أنا بالذات؟
رد سنودن: أنتِ صاحبة الاختيار، وأعمالك السابقة هى التى منحتنى هذه الثقة.
أبرزت لاورا مقولة سنودن: مَنْ يقُل الحقيقة ليس مجرمًا، وأنا مستعد تماما لتحمل نتائج ما فعلتْ، لا تهمنى المخاطر، يكفى أننى حافظتُ على ضميرى، ودافعتُ عن حريتى الفكرية، وحريات الآخرين من حولى.
سنعرف الليلة موقف الأوسكار مما فعله سنودن، لأن القضية فى أمريكا شائكة، وهناك انقسام كبير بشأنها، فهناك من يراه بطلا فى مواجهة جرائم انتهاك الخصوصية، وهناك من يراه خائنا للأمن القومى، ومصالح بلاده.
على كل حال ستبقى التسريبات هى ظاهرة المرحلة، وسيبقى سنودن فى مقام بروميثيوس، بطلا فى نظر الأفراد العاديين، وخائنا يستحق العقاب بقوانين الأخ الكبير .
قابلونى فى حفل الأوسكار لنقرأ المواقف والوجوه، ونعرف حكم أمريكا على المواطن رقم 4 .