الأهرام
ابراهيم عرفات
فقراء الأفكار والأعذار
ليس أسوأ من فقر الجيوب إلا فقر العقول. فهو المسئول عن كل أشكال الفقر والابتلاء التي قد يتعرض لها إنسان. وفقر العقول واضح بجلاء وسط ذلك الهوس الذي تلاحقنا أخباره كل يوم مؤكداً أن امتلاك العقل لا يعني بالضرورة تشغيله، فالعقل كأي أداة في حوزتنا قد لا نقدر قيمتها فلا نستعملها بالمرة أو لا نعرف ونحن نستعملها كيف يجب أن نستعملها. والعقل عند العرب يعيش منذ أكثر من ألف عام مآسي قاتلة، فمنذ هزيمة المعتزلة إلي مغامرات داعش ونكبات العقل العربي متواصلة، يكفي من بينها أنه اعتاد أن يتعاطي الخرافات وأن يبرئ نفسه من التبعات، وأن يطارد دعاة التبصر باللعنات والاتهامات.

نعم الكل يملك عقلاً وهذا ما يثبته التشريح الطبي. لكن ما يكشفه السلوك البشري يؤكد أن كثيرين لا يقومون بوظيفة العقل ولا يقدرون مهمته، والاثنان ليسا شيئا واحداً، الوظيفة شيء والمهمة شيء آخر، وظيفة العقل التفكير، أما مهمته فتحمل المسئولية، وليس كل من يفكر مستعد لتحمل مسئولية أفكاره ومن ثم أفعاله وإنما قد يفكر فقط في تحميل تبعاتها للآخرين، إن العقل الذي يلتمس لصاحبه الأعذار يقوم بوظيفته لكنه لا يؤدي مهمته. عقل فقير لن يأتي بجديد يغير طالما أنه يحمل المسئولية للغير. ولم تكن الأحداث الإرهابية الملعونة التي وقعت عبر العالم خلال الأيام القليلة الماضية، وبالذات تلك التي عاشتها فرنسا، إلا مناسبة جديدة تؤكد عجز قطاع كبير من البشر في عالمنا العربي-الإسلامي عن المراجعة وحساب النفس بل وحتي رؤية الأشياء كما هي، قطاع لا ينشغل بأخطائه وإنما بالتماس الأعذار لها والبحث عن شماعة يضع تلك الأخطاء عليها، ومن بين من علقوا علي تلك الجرائم، ومن بينهم أصحاب زوايا صحفية مقروءة، من رأي أنها تماماً كأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ليست إلا مؤامرة اصطنعها الغرب ليتذرع بها في طرد المسلمين من أوروبا ولضرب بلادهم، والأغرب من رأي هؤلاء العشاق لنظرية المؤامرة كان موقف من أدانوا جرائم الإرهاب بجملة ثم انهمكوا في التماس الأعذار لمن قاموا بها وكأنهم يقولون للضحايا «تستحقون ما جري لكم». ومن بين مقالات ومداخلات وتعليقات عديدة سيقت عشرات الأعذار لتبرير مثل هذه الأعمال. الغريب فيها أنها سبق أن ترددت تقريباً بشكل حرفي بعد أكثر من عمل تخريبي تورطت فيه جماعات من المسلمين المتشددين سواء في بلادنا أو عبر العالم، أعذار تعكس فقر الأفكار، يؤدي أصحابها وظيفة العقل في التفكير لكنهم لا ينهضون بمهمته في تحمل المسئولية، ومن بين تلك الأعذار أذكر علي سبيل المثال لا الحصر ما يلي: أن الفرنسيين تركوا صحيفة شارلي ابدو تهين الإسلام والمسلمين.

< أن أوروبا المسيحية أشعلت الحرب العالمية الأولي فقتلت سبعة ملايين وجرحت 21 مليوناً ولم يتهمها أحد بممارسة الإرهاب.

< أن أوروبا المسيحية أشعلت حرباً عالمية ثانية قتلت 50 مليوناً وجرحت 90 مليوناً ولم يتهمها أحد بممارسة الإرهاب.

< أن أمريكا قتلت 500 ألف ياباني لما ألقت قنابلها الذرية علي هيروشيما وناجازاكي ولم يرمها أحد بالإرهاب.

< تسبب غبار القنابل الذرية الأمريكية في موت الملايين في أماكن تبعد مئات الأميال عن اليابان ولم يرمي أحد أمريكا بالإرهاب.

< طورت أمريكا القنبلة الهيدروجينية في 1954، ولم تكتف بالقنبلة الذرية ولم يعتبر أحد أن ذلك إرهاب.

< قتلت أمريكا أكثر من ثلاثة ملايين فيتنامي في ستينيات القرن الماضي ولم يُسم ذلك إرهاباً.

< طردت المسيحية واليهودية سبعة ملايين فلسطيني من ديارهم ولم يطلق علي ذلك إرهاب.

< حولت أمريكا جزر سامار المسلمة في جنوب شرق آسيا إلي المسيحية وسمتها الفلبين ولم يسم أحد ذلك إرهاباً.

< قتل الإيطاليون 700 ألف ليبي ولم يُسمي ذلك إرهاباً.

< قتل المستعمر الأوروبي 80 ألف مسلم في جزيرة مدغشقر في يوم واحد ولا تذكر روايات التاريخ أن ذلك كان إرهاباً.قتل الفرنسيون ملايين الجزائريين واستعمروهم 130 سنة وترفض فرنسا أن يسمي ذلك إرهاباً.

< قتل الصرب والكروات ما يزيد علي 300 ألف مسلم في البوسنة والهرسك ولم يعتبر ذلك إرهاباً.

< أهان الأمريكيون أكثر من 300 عراقي في سجن أبو غريب بصورة جنسية وقتلوا مئات الآلاف من العراقيين ولم يسم أحد ذلك إرهاباً.

< أمدت إسرائيل الولايات المتحدة بنظم متكاملة لتعذيب المسجونين في أفغانستان والعراق وجوانتنامو ولم يسم ذلك إرهاباً. وليس لدي اعتراض علي معظم هذه الحجج في حد ذاتها. فأكثر تلك الوقائع التاريخية صحيح. وإنما الاعتراض ينسحب علي توظيفها خارج السياق الذي وقعت فيه بربط أحداث وقع بعضها قبل زمن بعيد في أماكن بعينها بأحداث وقعت فقط قبل أيام في أماكن أخري. صحيح أن التاريخ حلقات مترابطة، لكن الترابط بين وقائع التاريخ لا يكون علي الكيف أو لإثبات فكرة بعينها بأية طريقة، فمثل هذه السرديات التاريخية التي تبرر الإرهاب تصبح في حد ذاتها شكلاً من أشكال الإرهاب، سرديات لا يتبناها سوي عقل فقير يري نفسه دائماً علي حق وغيره دائماً علي باطل. يظن باستمرار أن الغير يتآمر علينا وأننا أبرياء طاهرون.

إنها أفكار تبريرية، لا تناقش الجريمة وإنما تدافع عنها باحثةً في قصص التاريخ عن أية وسيلة للتنصل من المسئولية، أفكار تطلقها عقول ملكت ولا تزال منابر وصحفا وأدوات تأثير تمكنت من عقول العوام إلي أن خربتها فعودتها علي الاعتقاد في تطهرية عقائدية استثنائية تميزها ونقاء نوعي يجعل أصحابها فوق الجميع، وبدلاً من أن تدفعنا الكوارث المتوالية للتفكير في تحمل المسئولية ما زالت تدفعنا إلي التهرب منها. وتلك مشكلة كبري لعقل وإن قام بوظيفته في التفكير إلا أنه ما زال مصراً علي عدم تحمل المسئولية، مع أن تحملها هو مناط التكليف الحقيقي للإنسان، فليس مطلوباً أن نُفكر فحسب وإنما أن نُفكر فيما أخطأنا فيه حتي نتفاداه ولا نكرره، أما من يلتمس في كل مرة الأعذار فيؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه شديد الفقر في الأفكار.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف