دخلتها لأول مرة برًا عن طريق حدودها مع الاردن.. كان التاكسي الجماعي الذي نركبه يضم مجموعة من الوجوه والأعمار.. واخترت شابا في مثل عمري وقتها وقد كنت طالبا في كلية الهندسة عام 1979 تقريبا.. سألته عن عنوان الاتوبيس الذي يمكن ان يوصلني من دمشق.. إلي حلب.. واختصر المسافة ودعاني إلي منزله في حي من احياء دمشق القديمة مازلت اذكر ملامحه المميزة.. ونظافته البديعة رغم آثار الزمان.. وقدم لي وجبة كنت في اشد الحاجة إليها.. وعرفت طبق الحمص المطحون الغارق في زيت الزيتون لأول مرة.. ومع أول لقمة أحببته حتي انني في موائد عامرة باشكال وألوان.. لا افارق الحمص مهما كانت المغريات.. وفي الشام هم ملوك المقبلات أو فواتح الشهية انها تضم المخللات والخضراوات الطازجة والكبيبة والفتوش أي السلطة الخضراء بالعيش المحمص وكثيرا ما نزلت علي هذه المقبلات واستغنيت بها عن اللحوم والاسماك والدجاج المشوي.. لأن فيها الكفاية وامام كرم صديقي الدمشقي الذي التقطني من التاكسي إلي بيته ثم قام بتوصيلي إلي محطة الباصات.. امام هذا الكرم لم اجد ما اقدمه إليه سوي تاج الجزيرة أو السلطانية.. وتاجي هو كتابي الأول الذي يضم اشعار العامية والذي كان يحمل اسم "الخوف في عيون الاقوياء".. وفي الباص العتيقة.. جلست في المقعد الأخير فقد كانت العلاقات بين مصر وسوريا سياسيًا متوترة وخشيت ان سمعوا لهجتي ان اتعرض لكلمة كده أو كده.. حتي نفد صبري من طول الطريق وسألت جاري وكان شابا مجندا: امتي توصل حلب؟.. وسألني بدوره وبصوت مسموع: أنت مصري؟ وفوجئت بالركاب جميعا يتحولون بابصارهم ناحيتي.. بما فيهم السائق وكأنهم وجدوا "غنيمة" وسادت لحظة من الصمت الغامض المخيف من جانبي وإذا بالوجوه تتهلل والاسئلة تنهال عليْ عن مصر وأهلها.. وفيهم من تعيش خالته أو عمه في الشرابية أو الإسكندرية وفي الاستراحة نزلت اشتري سندوتش ووجدت من يضع يده الثقيلة علي كتفي فجأة وهو يصيح في وجهي باللهجة الشامية:
ــ اعوذ بالله يا زلمة ايش بتعمل انت؟
قلت: ولا حاجة!
قال مبتسما بعد أن نشف دمي: انت ضيفنا!
وابتلعت ريقي.. وقدم لي السندوتش وهو عبارة عن لحم مفروم في قطعة خبز ساخنة يسمونها "صنيه" ثم مشروبا.. ثم اتبعه بالمسليات أو البذور لب وفستق.
كانت لهجتي المصرية في الباص اشبه بأغنيات عبدالحليم حافظ يستمعون إليها بكل شغف وشجن ولسان حالهم يقول لي بكل ترحاب ارجوك لا تتوقف عن الحكي المصري فإننا نحب كل ما يربطنا بكم ويربطنا بكم من ايام الوحدة.. انها عشرة العروبة والمصاهرة والمودة وقد وجدتها فعلا وقولا وكرما وعشقا آه يا سوريا.. كم هي طويلة وجميلة قصتي معك.